العنوان هو شطر بيت من الشعر أوردته ضمن بيتين لشاعر زمانه الكبير جاسم الصحيح في وقفة الجمعة الماضية، نوظفه في السياق، ونذكر اسم كاتبه الجميل لأمانة النقل.
طاقة الإنسان العامل لا تنفد، وهمته لا تستكين، وقدراته لا تعطب. نعم لما يحكم به العمر والتقدم في السن، ولكن البدائل دائمًا موجودة وفورة العطاء متقدة، فهو يتفرع ويتشجر ويزهر ويثمر، ومن أماكن مختلفة، وبتوظيف ما اكتسب وتعلم واختزن من خبرات وثقافات وعلاقات وما شابه ذلك مما جناه وحصده وزرعه طوال حياته.
الإنسان المتطلع للأمل يبدأ من نقطة الصفر التي ينطلق منها نحو تطلعاته، فيسعى حثيثًا ليكون هو بالمضمون والمقدور وبما يقارب المستحيل ويتعداه بحسب عرفنا ومعرفتنا، فالعلم لا يتوقف وخزائن المعرفة لا تنضب، والتحصيل مشرع الأبواب وما عليه سوى أن يجني حصاد جهده وتعبه وكفاحه، ولا بد من أن يكون لكل ذلك انعكاس عليه ليصبح الشعلة المتقدة عطاءً ونماءً وفهمًا، ثم يتشظى ليكون مجموعة في فرد، بل أمة من الناس في شخص إنسان واحد.
نعم.. إنه هو وليس غيره، إنه الإنسان الذي يبني ذاته ويصقلها. إنه الإنسان الذي يحصد.. يتعلم ويتفوق، ولا يكتفي بتعليق ذلك نيشانًا على صدره، أو ورقة مبروزة على حائط، بل يفعل ويتفاعل ويرسم الأهداف ويحقق النجاحات تلو النجاحات وصولًا للغايات الفردية والجماعية.
إنه هو، وليس ذلك الذي يندبه حظه، ويبكيه عمره ووقته وقد خلت يداه من الثمار، ومما أتيح له ولسواه، ولكنه أخفق أو كابر أو تمرد، أو أن حياته كانت مزدحمة بالشقاء والتعاسة وسوء الحظ، أو كان عليه أن يتفرغ ليجاهد من أجل تحصيل لقمة العيش لحياة أكرم.
ما يعنيننا هنا أمران، الأول هو أنه ليس كل إنسان لديه المقدرة على الانبلاج والتوهج ما لم يملك الآلية ليثبت ويقرن وبالدليل قوله بفعله، وبالتالي يشار له بالبنان، وهو أصلًا فاقدٌ للأهلية والقدرة، والسلاح الذي يسعفه على ذلك، لذا يجب عليه أن يعرف أين يكون دون مزاحمة من لا يستطيع مقارعتهم، فقط ليقول إنني موجود، فأن يعرف قدره ومستواه خير له من أن يفضح ذاته وينكشف حجمه من حيث يدري أو لا يدري.
الأمر الثاني: هو ذلك الإنسان الذي بدأنا به ونختم، ذلك الإنسان المتطلع المتوقد.. المختزن الملكات، المكتنز الطاقات وما عليه سوى تفعيلها وتوظيفها لذاته وحياته، ولمجتمعه ووطنه، لا أن يكون راكدًا راقدًا، بل يشعل نفسه ويعملها هنا وهناك، ويوظفها في خدمة الآخر، الذي يتطلع ليكون مثله وأفضل حالًا منه.
على هذا الإنسان أن يستنسخ من ذاته ذواتًا، ومن شاكلته أشكالًا، ومن لونه ألوانًا جاذبة، وأن يتفرع ويُغصن في أشكال مختلفة، ولن ينقص منه شيء، بل على العكس تمامًا، سوف يخلف بصمة هنا، وقدمًا هناك، واسمًا لامعًا يرفرف في كل مكان زرع فيه نبتة أو نواة، فارتوت ونمت واعتلت وحلقت في سماء الإبداع. عندها سوف يكتسب محياه بالرضا، ويتشح بالفخر والاعتزاز، وسوف تتجه نحوه الأنظار والقلوب، وإن نغص عليه البعض بالبغض، ووقف في طريقه آخرون، وإن قيل عنه أنه يدير غيره من وراء الستار، فتلك لعَمري مكرمة لا مثلمة، وهو أمر طبيعي يصطدم به الناجحون مما يستوجب أن يكون دافعًا للأمام لا مدعاة للتراجع.
ليكن حيث يجب أن يكون، ولا شرط لعمرٍ محدود، أو وقت معلوم. فهو إن كان قد ضعفت قواه فلن يفقد قدراته وخبراته، ويمكنه أن يعلم ويدرب ويوظف غيره ممن لديهم ما يشفع بالأهلية، وليس أولئك الفارغون من المحتوى والمفتقرون حتى للأساسيات التي يمكن أن تشفع لهم ولو بالحد المقبول.
نعم هو واحدٌ مثل ما قال الشاعر الصحيح ولكن يمكنه أن يصبح عشرات بل مئات بل آلافًا من البشر، وأن يبني أجيالًا بفضل علمه وثقافته وحكمته وخبراته المتراكمة ليدفعهم لاحقًا للمجتمع، وليخدموا في المجالات المختلفة سواء التطوعية والخدمية أو الثقافية أو الرياضية، ومختلف المناشط التي تعود بالنفع والإيجابية على الإنسان والحياة، والعائد الأكبر من ذلك كله سيكون له ولأولئك الذين سخرهم الله تعالى لخدمة أوطانهم وتشظوا كالنجوم يشتعلون ويتلألؤون في فضاءات العطاء وسوح الإبداع، ويحصدون الجزاء والجوائز ويرتفعون قدرًا وشأنًا حتى وإن غابوا عن الأنظار يومًا ما.
وقفة:
مما ينسب لأمير المؤمنين (عليه السلام):
(تَكَلّمُوا تُعْرَفُوا، فَإنّ المَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ).