شاطر لكن سيئ!

قبل أكثر من عقدين من الزمن وخلال دراستي الجامعية، وبالتحديد في مادة علم الاجتماع الصناعي -وهي مادة تعنى بسلوك الموظفين وعلاقاتهم في بيئة العمل-، أخبرنا الدكتور قصة مفادها أنه كان هنالك طبيب بارع بلغ ذروة النجاح في مجال تخصصه النادر، والذي يتطلب مستوى عاليًا جدًا من الكفاءة والمهارة والدقة، واكتسب سمعة كبيرة حتى أصبح الخيار الأول للمرضى، الذين عجز الآخرون عن إيجاد حلول لمشاكلهم الصحية وهم بحاجة إلى تدخلاته الجراحية. أجرى أحد الباحثين دراسة ميدانية ليتعرف على الأسباب التي جعلت ذلك الطبيب يتميز عن بقية أقرانه في نفس المجال. لم يكن حصول الطبيب على تقييم عالٍ جدًا ومميز من قبل المرضى مفاجئًا، ولكن الصدمة كانت حاضرة في التقييم السيئ الذي حصل عليه من الطاقم الطبي المساعد، مما أثار فضول الباحث للتعمق أكثر.

في كثير من الأحيان يكون تقييمنا للأشخاص والأحداث مبنيًا على خبرة الآخرين أو تجاربنا الشخصية، وفي بعض الأحيان تكون الانطباعات والآراء متباينة لاختلاف المعايير والمعطيات وعامل الوقت. بالرجوع إلى قصة ذلك الطبيب، فمن الطبيعي جدًا أن يكون تقييم المرضى عاليًا وفي غاية الرضا، حيث لا يكاد يقصد عيادته أحد إلا تماثل للشفاء وهذا ما يسعى إليه المريض في المرتبة الأولى، والذي يكون خاضعًا للتخدير ولا يعلم بما يدور خلف الكواليس من تفاصيل ليس بحاجة لمعرفتها. أما الطاقم الطبي المساعد، فكان يشكو كثيرًا من طريقة تعامل الطبيب معهم، واستخدامه للألفاظ السيئة حتى في المواقف التي لا تستدعي الغضب، مما يجعل العمل ضمن فريقه أمرًا غير مرغوب فيه أو محبب عند البعض. لا شك أن إظهار الاحترام للآخرين بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية والمذهبية والفكرية، يساهم بشكل كبير في صناعة مجتمع متكاتف وخلق بيئة عمل صحية، تساعد الجميع للارتقاء بالأداء والتعاون للوصول إلى النتائج المرجوة.

كأشخاص نكون موظفين وموظفات في المكاتب والمصانع، أزواجًا وزوجات، أخوة وأخوات، آباء وأمهات في المنازل، نعيش ونقوم بأدوار متفرقة، وإظهار شخصيات مختلفة واستخدام طرق وأساليب متنوعة، تتماشى مع متطلبات كل جزء من أجزاء حياتنا اليومية. وبالتالي نجاحنا في جزئية معينة لا يعني أو يضمن نجاحنا في الجزئيات الأخرى، ليس بالضرورة إذا كان الفرد موظفًا ناجحًا أنه سيصبح زوجًا ناجحًا أو زوجة مثالية دون إعطاء الاهتمام وبذل الجهد المناسب لتحقيق ذلك، البعض يكون متفوقًا دراسيًا لكنه فاشل اجتماعيًا، أو على أقل تقدير، لا يستطيع تكوين صداقات أو العمل ضمن مجموعات والعكس صحيح، هنالك أشخاص لم يكملوا حتى دراستهم الثانوية، لكنهم يلعبون أدوارًا مهمة في مجتمعاتهم، بالاعتماد على خبرتهم في العلاقات العامة التي اكتسبوها على مدار السنين والمهارات، التي عكفوا على تطويرها بالممارسة. هذا لا يعني أنه لا يوجد أشخاص بلغوا النجاح في كل شؤون الحياة أو معظمها، كما أن البعض يعلم ويملك مقومات النجاح، ولكن لا يحسن استغلالها وتوظيفها بشكل إيجابي يعود عليه بالفائدة. والبعض يحتاج للتوجيه والإرشاد، لتحريك الطاقة الكامنة بداخله، والبعض يحتاج لاكتساب وتطوير المتطلبات.

في جلسة نقاش جانبية وودية قال لي أحدهم “أنت ما تفهم شيئًا في الرياضة” فقلت له بغض النظر عن أسلوبك في إبداء الرأي، هل أدعيت شخصيًا أو أخبرك أحدهم يومًا من الأيام أنني أجيد الضربات المقصية (دبل كيك)؟ أيام اللعب في الحواري، كانت كل الأخطاء هي ضربات جزاء والتسلل التي وظفت من أجلها في وقتنا الحاضر تقنيات عالية الدقة، لم تكن أساسًا موجودة في عالمنا المُصغر، بل إن المهاجم كان يدخل في معسكر طوال وقت المباراة بالقرب من شبكة المنافس، في انتظار تمريرة من زميل أو كرة طائشة من الفريق المنافس ليسجل هدفًا، وكانت النتائج أرقامًا فلكية على غرار كرة اليد. الرياضة ليست من أولويات اهتماماتي، فلا تتوقع مني أن أبذل جهداً للبحث، ومعرفة التفاصيل الدقيقة والمتعلقة بالتعديل الجديد الخاص بقانون لمس الكرة باليد في المنطقة المحظورة!

بالنظر إلى توصيات الأهل البسيطة “انتبه إلى دروسك” “حافظ على صلاتك” “احترم إخوانك” والتي تحمل في مضمونها مفتاحًا مهمًا من مفاتيح النجاح على جميع الأصعدة وهو الاهتمام والانضباط. على سبيل المثال، الاهتمام بالدراسة يؤهلك للحصول على شهادة وبالتالي يفتح أمامك الآفاق للحصول على وظيفة مرموقة تستطيع من خلالها تكوين أسرة. لا شك بأن المحافظة على الصلاة، هي وسيلة لتوطيد العلاقة مع الخالق عز وجل وبالتالي تنعكس آثارها ونتائجها على الفرد في الدنيا قبل الآخرة. كما أن المحافظة على العلاقة الأخوية الطيبة، تتطلب الاحترام المتبادل والتسامح والبُعد عن المشاحنات والنزاعات. البعض من السلوكيات نحتاج إلى توظيفها في أغلب شؤوننا الحياتية، وهي من متطلبات نجاح العلاقات البشرية.

الكمال لله وحده، لكن جميل جدًا أن يكون الشخص ناجحًا ومتفوقًا في جميع الأدوار التي يؤديها، يجب علينا الأخذ في الحسبان بأن ما نقوم به من أعمال في كثير من الأحيان هي من أجل مستنفذين آخرين، فلذلك رضاؤهم على ما نقوم به أو الوصول إلى درجة قريبة من سقف تطلعاتهم، هو المعيار الحقيقي لنجاحنا في المهمة. بعبارة أخرى نحن كما يرانا الآخرون وليس كما نرى أنفسنا. أحيانًا نظهر الحماس والاجتهاد والصبر والاهتمام بوجهات نظر وآراء الأطراف المعنية، وتقديم التضحيات ولكن لا نوفق في الوصول إلى ما نصبوا إليه، لنصبح في نظر البعض فاشلين، ونكون محل تقدير البعض لأنهم يؤمنون بأن “شرف المحاولة نجاح” لنكتشف لاحقًا أن النجاح يكمن في إعادة المحاولة أو تغيير الإستراتيجية المُتبعة للوصول إلى أفضل النتائج. فإذا ما أردنا الابتعاد عن تقييم “شاطر ولكن سيئ”، فيجب علينا تحديد الأولويات واستغلال الطاقات والمهارات بصورة مثالية والموازنة في إعطاء كل جانب، القدر الكافي من الاهتمام والرعاية والعمل بجد لتحقيق الأهداف المنشودة.



error: المحتوي محمي