استطاع الأستاذ الكاتب محمد رضا نصرالله منذ شبابه الأول أن يظفر بلقاءات صحفية أولًا، وتلفزيونية ثانيًا، مع رموز الأدب والشعر والرواية والنقد والكتابة في العالم العربي، إضافة إلى آخرين من رجال الدولة والساسة والمستشرقين. وأجرى الأستاذ محمد مع هؤلاء القامات الفكرية خلال ربع قرن أو أزيد، أكثر من ألف ساعة حوارية، لصالح صحيفة الرياض ومجلة اليمامة، ولعشر برامج تلفزيونية في التلفزيون السعودي، وقناة إم بي سي الفضائية.
فغدت تلكم الحوارات فرصة بالاتجاهين؛ كي نعرف القوم، ويعرفوننا، وتصح منهم النظرة صوب البلاد والمجتمع وأناسهما، وتتسع لهم -وللمقبول من آرائهم- الأذهان والقلوب من المتابعين. ومن المؤكد أنها كانت بوابة عبور لكثير منهم كي يزوروا المملكة، ويشاركوا في محافلها الثقافية والأدبية، ويستكتبوا في صحفها أو يستضافوا عبر وسائلها وأذرعتها الممتدة، وفازوا ببعض جوائزها أو أرادوا ذلك؛ فأصبحت حوارات كاتبنا بحقٍّ قوة ناعمة لم تفقد وهجها، والحاجة لمثلها قائمة، والأمل معقود لمواصلة المسيرة من محاورين يناسبون العصر مثل أبو مالح، ومالك، والمديفر، وغيرهم.
بدأت فكرة هذه الحوارات من منابع ذاتية حينما قضى أبو أوراد شهور الصيف في القاهرة بعد نهاية أول سنة دراسية له بالجامعة في الرياض عام (1974م)، وهناك جلس في المقهى الصباحي مع كبار كتّاب مصر، وعلى رأسهم توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ومن تحلّق حولهما. وبعد رجوعه إلى الرياض اقتنص الأستاذ تركي السديري هذه الحوارات من زميله في صحيفة الرياض؛ ليجعلها من مكاسب صحيفته اليومية بدلًا من نشرها في مجلة اليمامة الأسبوعية.
ثمّ سهلت له هذه اللقاءات الفوز بترشيح جرئ من وكيل وزارة الإعلام آنذاك د.عبدالعزيز خوجه؛ ليجري الشاب الطلعة أمثال هذه اللقاءات في مصر ودول المغرب العربي عام (1978م)، ونال حينها مساندة على وجل من الوزير د.محمد يماني الذي لم يصدق ما رآه من منتج ثمين غزيز نادر؛ خاصة أن الخوف ساد في أوساط وزارة الإعلام مع التشكك بنجاح شاب صغير في هاتيك المهمة الشاقة العسيرة مع المثقفين والكتّاب، وليس مع أهل الغناء والرقص كما وهم بعضهم!
وقد استجاب أولئك الأعمدة الثقافية لطلبات الأستاذ نصر الله في إجراء اللقاءات بعد عناء صادفه من بعضهم، أو مواجهة اشتراطات غريبة في المدة أو المقابل أو الإطعام والبيات! وكانت الاستجابة بذلكم المستوى غريبة غير متوقعة؛ لأن المحاور شاب حديث السنّ، وقادم من بلاد ليس لها حضور إعلامي قوي في تلك الأزمنة، ومن بيئة عشعشت في أذهان كثير من المثقفين صورة سيئة عنها وعن أهلها، دون أن يكلف أحد منهم عناء فحص ما يقرأ أو يسمع، مع أنهم من أرباب الفكر والتدقيق والعقل، وفعلًا صدق من قال: إن العلّامة إذا أخطأ أخطأ بتبحر، ولم يجانب الحقيقة من حذّر من زلة العالِم التي يزل معها العالم.
عقب ذلك ظهرت تلك الحوارات متلفزة فبهرت المشاهد المحلي والعربي، وتسامع بها الناس خاصة عندما بثت عبر فضائية عربية قوية بما ومن خلفها من أناس وأموال، وبمالها من أضواء وتأثير. ومن الآثار الأولى للحوارات في التلفزيون المحلي أن قطعت بعض حلقاتها خلال البث، وأجرى الوزير د.يماني حوارًا مع نصر الله لشرح مواقف المملكة السياسية، وأدرجت تلكم الحلقة ضمن حلقات البرنامج مع أنه ثقافي صرف، وأوقفت برامج نصر الله أحيانًا مما منحها شعبية أكبر وحفاوة أكثر.
ومن ثمارها أن وزير الخارجية السوري فاروق الشرع لم يصدق أن يكون هذا المحاور البارع سعوديًا؛ فلما قابله وتأكد من سعوديته، اغتنم صاحب البرنامج الفرصة لإجراء حوار مع الوزير الذي هاله أن المحاور ليس لديه أسئلة معدة مسبقًا؛ فهو لا يأتي للحوار بأوراق، وإنما باستعداد ذهني، وبديهة حية، ومخزون ثقافي ومعرفي كبير، مع استناد للموهبة الفطرية، وحسنًا فعل أبو فراس باهتبال الفرصة، وإخضاع أهل الشك لليقين الجازم الذي يرونه عيانًا وإنه لبرهان مسكت.
وكان من حسنات تلكم اللقاءات أنها أظهرت للمثقفين شخصيات ثقافية كبرى لأول مرة عبر شاشة عربية، وربما أنها الوحيدة المحفوظة لهم، مثل الفيلسوف المصري د.عبدالرحمن بدوي، والعالم العراقي المهندس د.أحمد سوسة الذي كان يهوديًا فأسلم، والشاعر السوري شفيق جبري، والأديب العراقي اليهودي مير بصري، والكاتب السعودي عبدالله الجشي الذي طوّف خارج البلاد معارضًا، وبعد أن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت احتضنته بلاده دون مساءلة، ومنهم المفكر الأمريكي صاحب مقولة صراع الحضارات صموئيل هنتنجتون.
كذلك من جماليات هذه المواد أن الأستاذ محمد رضا نصرالله جلس أمام ضيوفه بلا انكسار أو تراجع ثقافي، وإنما بحوار عليه سيما الندية المؤدبة، مما جعل القوم يقدرون المنتج الثقافي السعودي قياسًا على شخصية المحاور، وأدائه، ومخزونه العلمي واللغوي، وحسن تصوره وإدارته لألوان من القول، وأصناف من الرأي والمذاهب. ومن الحسن الجميل كذلك أن هذه اللقاءات متوافرة على شبكة الإنترنت مرئية لمن شاء المشاهدة، أو كان السماع أيسر له، وإن كان تسجيل بعضها دون المأمول لأسباب فنية مفهومة.
ومن فضائل هذه اللقاءات أنه لو اجتمع عليها أبالسة سوء الظن من الإنس والجن لما استطاعوا أن يضعوا فارسها الأستاذ محمد رضا نصرالله في دائرة ضيقة من الاتهام، أو الفئوية، أو التصنيف المقيت المحبب لطائفة من معشر البشر؛ وبئس المعشر! فهذه الحوارات فيها من الشرق والغرب، ومن العرب والعجم، ومن الرجال والنساء، ومن الأديان كافة، وأصحاب المشارب الفكرية، والانتماءات البلدانية والحزبية والأدبية والعملية والفنية التي لا يجمعها سوى كلمة الثقافة، وكفى بها جامعًا وجامعة لمن عقل.
أما أحد أعظم ما وقفت عليه في هذه اللقاءات لدرجة هزتني وهزت مشاعري؛ فهو أنها حين خرجت مطبوعة أهداها المحاور المؤلف إلى والده الشيخ منصور بن حسن نصر الله؛ إذ أنه عقل صورة والده أول ما عقلها ومعه كتاب أنيق، وهي رسالة صريحة للآباء والأمهات والمربين. ومن الإنصاف الذي يضاف لهذا العمل أن الأستاذ المحاور أثنى على المخرج المبدع سعد الفريح، وأشاد بإصرار الراحل د.عبدالرحمن الشبيلي عليه لإصدار هذه القاءات المرئية مكتوبة، وعرّج على ما أضافته له معرفة الشيخ حمد الجاسر، والشيخ عبدالعزيز التويجري، والدكتور غازي القصيبي، ومما أضافته تسهيل اللقيا ببعض أولئك الرموز خاصة في المراحل المتأخرة، ولهؤلاء الثلاثة لقاءات مفرغة في الكتاب، وحاز القصيبي فيما بدا لي المركز الأول في عدد حوارات الكتاب قاطبة.
كما أشار المؤلف في لقاء مرئي معه أن كتابته عن بعض منتجات هذه الأسماء الثقافية جعلته معروفًا لديهم، إضافة إلى رصيده الضخم عبر الشاشة الذي سبق اسمه وسمعته في العواصم العربية، فجعل كبار الأدباء والمثقفين يسعون إليه في مكانه، ويحرصون على أن يكون لهم من اللقاء معه نصيبًا مفروضًا، وهو مالم يجده من بعض الساسة، إذ أنجاه الله من مخالب فئام منهم في بغداد أوائل عهد صدام حسين بعد أن همس له موظف كبير عنده حمية ثقافية -ونعم الحمية-؛ وكانوا حينها في حفلة عشاء احتفاء بالإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله الذي سجل عدة لقاءات مع أسماء عراقية؛ فقال الموظف لنصرالله ما معناه أن اخرج فإني لك من الناصحين؛ لأن الملأ يأتمرون بك، فخرج ابن بلادي لا يلوي على شيء، وهو خائف يترقب حتى بلغ مأمنه في دمشق.
ومن المهم التنويه إلى أن هذا المشروع الضخم في عدد ضيوفه الذين تجاوزا مئة وخمسين ضيفًا، وفي ساعاته التي زادت عن الألف، وكلماته التي لامست سقف المليون، ما كان ليكون لولا همة المحاور الأستاذ محمد رضا نصر الله في السفر والتتبع والتقصي، وجرأته في طلب اللقاء بلا سقف ولا حكم مسبق، وقبوله التحدي، وإرادته الجازمة بالظفر له، ولتاريخ بلاده الفكري، إضافة إلى موهبته الأساسية، وآثار مكتبة والده ومجالسه عليه.
ومما يذكر فيثنى عليه ذلكم المستوى غير المسبوق من الحرية الذي منح للأستاذ محمد، فلم يفرض عليه ضيف، أو سؤال، أو محاور؛ لأنه وعمله في إطار ثقافي فكري خالص، ولا معنى لأي حساسية أو خوف، وليته استطاع مقابلة الروائي السعودي عبدالرحمن منيف لولا أن تعثرت عودته لدياره ومرابع أسرته. ولا يمكن الغفلة عن شكر ما أفاده الأستاذ من ثقل للمملكة كبير، ووزن فارق، عبر رجالاتها، ورموزها، وقنواتها ووسائلها الإعلامية، وهي روافد اجتمعت فوجدت المجرى الملائم في شخص الأستاذ الكاتب محمد رضا نصرالله؛ ولذلك سالت على إثرها أنهار من الثقافة والأدب والفكر، ولسوف تجيّر لصالح بلادنا وإسهامها الثقافي.
أخيرًا؛ فإن هذه الكلمة هي شيء مما يختلج في النفس وأنا أقلّب بسعادة وابتهاج كتابًا ضخمًا من ثلاثة أجزاء كبار، كل جزء يقع في (815) صفحة في نوع من العدل الثقافي النادر، وعنوان الكتاب: حوارات القرن لأكثر من مئة وخمسين شخصية مؤثرة، تأليف: محمد رضا نصرالله، صدرت طبعته الأولى عام (2023م) عن المركز الأكاديمي للأبحاث. والكتاب مشروع أجاد به مثقفنا الكبير القطيفي ذو الأصول النجدية الأستاذ محمد رضا نصر الله كي يعدّل الصورة النمطية عن بلادنا، ويعمل بهدوء على تفتيت تلك الصورة البغيضة الباهتة أو الظالمة المتخيلة، واستغرق الكتاب في مراحل الإعداد والتصميم والإخراج والمراجعة أكثر من خمس سنوات، وقد حوى مع الفكر والرؤى والمثاقفة سيرًا وأخبارًا ومواقف طريفة للمحاور أو لضيوفه.