عندما يتحول الانتقاد إلى سهام وهجوم!

فكرة النقد من خلال تسليط أدوات الفكر والنظر نحو المفاهيم ووجهات نظر الآخرين والمواقف والأحداث، تعد ثمرة يتوقد منها فكرنا ويتطور ويتكامل ويصل إلى أعلى درجات التمكين، فما من فكرة أو موقف إلا ويشوبه النقص والخلل ويحتاج إلى نظرات واعية تحسنه وتصحح ما فيه من خطأ، كما أن النقد يلقي بظلاله الإيجابية علينا وعلى الآخرين من جهة تفتح المدارك العقلية وطريقة النظر الدقيق للأمور، وهذا ما ينعكس على طريقة اتخاذنا للقرارات والمواقف بعيدًا عن العاطفة والجهالة، كما أن محاسبة النفس من أهم ثمار النقد فنراجع ونصحح ما يصدر منا ونتراجع خطوة عما تبين لنا الاشتباه أو الخطأ فيه دون مكابرة.

وتوجيه النقد للآخرين في أفكارهم وتصرفاتهم ينبغي أن يبقى في إطار التوجيه والمحبة للغير برؤيته في أفضل الأحوال، ولكنه عند البعض -ومع الأسف- يتخذ اتجاهات ومسارات لا يراد منها التوجيه بقدر وجود منفعية خاصة، فالبعض يوجه النقد من أجل نفض غبار التقصير والخطأ عنه وكأنه الكامل والمنزه عن كل نقص، وذلك من خلال توجيه الانتقاد للآخرين وإظهارهم بمظهر النقص والقزمية في مقابل تضخيم شخصيته وإعلاء شأنه ودفع شائبة الخطأ والجهل والاشتباه عنه، وبذلك يتحول النقد من تبيان لأوجه الخطأ من أجل تصحيحها وظهور الآخر في أحسن صورة، إلى وسيلة ماكرة يراد منها إيقاع الغير تحت وطأة الضغوط النفسية وكسر جناح الطموح عنده، وتطغى هذه الحالة الكيدية لتتحول عند البعض كالهواية المفضلة والبضاعة المزجاة التي يقدمها في كل جلسة وحوار يشارك فيه، فإنجازات الآخرين لا تأخذ منهم مأخذ الإعجاب والإشادة بها، بل يتعامل معها بكل برود ولا مبالاة وكأنها شيء غير ذي بال ولا يستحق الاهتمام به، فالمهم عنده أن يلقي رأيه المجحف بحقوق الآخرين مهما كان عدد الأصوات المخالفة له، فمن كان همه الأكبر إبراز عضلاته وتسجيل الانتصارات الوهمية سيكون شغله الشاغل البحث عن النقاط السلبية في الآخر ولو من خلال رؤيته القاصرة لذلك، فيبدو مثل هؤلاء كأنهم لا يرون شيئًا إيجابيًا فيما يجدونه من أفكار وظواهر، متناسين وغافلين عن حقيقة النقد وكون المطلوب منه الإيجابية وإكمال النواقص والتنبيه على الأخطاء، وإذا ما تعدى هذه الحدود فإنه يفارق العقلانية والإنتاجية، ويتحول إلى معول هدم للعلاقات الاجتماعية ومصدر بث للكراهيات والخصومات، ومن اتخذ الانتقاد مصدر هجوم على الآخرين بلا شك أنه سيكون شخصية منبوذة، وذلك أن الأجواء التي يبثها تتسم بالسلبية والتشاؤم والبعد عن المنطقية.

الشخصية الإيجابية تتميز ببث روح الأمل وانفراج الأمور والدعوة إلى المثابرة والعمل الجاد والنهوض مجددًا بعد أي نكبة أو إخفاق، ولذا فهو شخصية محبوبة في المحيط الاجتماعي فيعدونه عاملًا مساندًا لهم في أفكارهم ومشروعاتهم، بينما من يتخذ الانتقاد درع وقاية عن نفسه ومدفع هجوم يقذف بحممه في كل اتجاه وفي كل أمر، ولعل العامل النفسي هو ما يحرك مثل هؤلاء نحو الانتقاد بلا سبب وهو الشعور بالنقص وعدم القدرة على تحقيق إنجاز أو نجاح يشار له، فيحاول إثبات وجوده من خلال كثرة الانتقاد لإظهار نفسه بالشخص الفاهم.

كما أنه يسيطر عليه حب الظهور ولفت الأنظار إليه، فهو يعتقد واهمًا أن الشخصية الاجتماعية البارزة تتميز بالحديث في كل شيء بغض النظر عن كون ما يتفوه به لا قيمة له.

والمهم أن نعرف كيفية التعامل مع هؤلاء الأشخاص قبل أن تصل إلينا رياح انتقاداتهم الفارغة وغير المفيدة، وذلك من خلال تجاهل ما يتفوهون به من فقاعات قد تحدث مشاحنات، فهذا المنتقد السلبي يعتقد أنه يعطي ملاحظات مهمة ويصحح الواقع الخاطئ، ويصعب علينا أن نفهمه الفكرة الخاطئة عنده إذ يتميز بالتزمت وصعوبة الإقناع، وهذا ما يجعل المواجهة معه غير سهلة ولا متكافئة بالإضافة إلى أنها غير مثمرة، فبعد تحديد أن غاياته غير بناءة، لا يوجد من مخرج لهذا الموقف سوى تجنب الدخول معه في مواجهة.



error: المحتوي محمي