قد يقصر عقلُ الشخص عن استيعاب وفهم فكرة ما أو حدث أو مشكل وقع هنا أو هناك، وإمكانية التعاطي مع كلّ ذلك بطريقة الحل المثلى اللازم اتباعها. وما صعب تفسيره وتعليله وحلّه في مكان وزمان معين؛ سيكون بالإمكان بيانه واستيعابه وحلّه في مكان وزمان آخر.
وكلُّ ذلك يعود لمقدار ما يتمتع به هذا الشخص من مقومات تجعل منه شخصًا ناضجًا، وتبرز مثل هذه المقومات في مقدار ما يحمله هذا الشخص من ميول علمية كبيرة، ومدى الحرص الذي يبديه في البحث عن السبل التي ستسهم في تنمية ثقافته وتنمية أفكارهِ، من أجل القيام بالعديد من الأعمال والتجارب الناجحة والتي سوف تعكس إيجاباً وتقدمًا عليه، فتجده يبحث عن آخر الكتب والمصنفات العلمية التي تثري فكره، بالإضافة لاهتمامه بحضور الندوات العلميّة التي تقام في مختلف الأماكن من حين لآخر.
كذلك يمتلك الشخص الناضج قدرةً على حماية نفسهِ من المخاطر التي قد تحيط بهِ، فهو لا يكرر طلب المساعدة من الآخرين عندما يقع في أي مأزق، أو عندما يتعرّض لأي اعتداء، وذلك لأنه عادةً ما يضع الخطط المناسبة لتفادي أي خطأ، ولتفادي أي تعدِّي محتمل من أي طرف كان.
كما يتميّز صاحب الشخصيّة الناضجة بهدوئه الشديد الذي يتسم به في أصعب المواقف والظروف التي تمرُ عليهِ، فهو لا يستسلم للمشاعر ولا يندفع نحو الأمور بسرعةٍ ودون دراسة، إنما يُفكر مليًّا قبل الإقدام على أي خطوة وعلى أي عمل، حتى لا يقع ضحية الانفعال.
وهو ممن يمتلك القدرة على المبادرة وعلى الكلام بطريقةٍ صحيحةٍ وسليمة، لتصل إلى الطرف الآخر ويُقنعه بها بأسلوب مميز وجذّاب، كما ويحرصُ الشخص الناضج على عدم الدخول بأي نقاشاتٍ لا تجدي نفعًا مع الآخرين. قَالَ علي (عليه السلام): لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَقَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ.
وهو ممن يحرص أيضًا على عدم الدخول أو الإقدام على أي نوع من المغامرات الخطيرة التي قد تلحق الأذى بهِ أو بالآخرين، لذلك فهو يحرص وبشكلٍ دائم على دراسة خطواتهِ بشكلٍ جيد، ولا يقوم بأي عمل أو أي مشروع دون أن يتأكد من إيجابيّة النتائج التي ستعودُ عليهِ.
يُدرك الشخص الناضج حقيقةً أساسيّةً وهي أن التقرب من الله سبحانهُ وتعالى سيزيدُ من قوتهِ ومن نجاحهِ في الحياة، لهذا فإنّهُ يحرصُ على أداء العبادات التي فرضها اللهُ عليهِ، ويحرص على اتباع مختلف تعاليم دينهِ. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]
فهو عادة ما يهتم بمناقشة الأفكار وليس الناس، ويسعى لمحبة الناس بمقدار محبته لنفسه، وأن يتحمل مسؤولية أفعاله بغض النظر عن أخطاء الآخرين، ومن أهم ما يميز الشخص الناضج هو اتسامه بالذكاء؛ فهو لا يبدي رأيه في كلِّ موقف ومع كلِّ شخص؛ فهو يعرف أن الناس تنفر ممن يواصل تصحيح آرائهم وأفعالهم، ويضيف مداخلات غير ضرورية، ويدركون أنه يفعل ذلك خدمة لنفسه. وسيفرح من حوله عندما يتخلى عن كل هذه الثرثرة الفارغة. الشخص الناضج يبدي احترامه للناس وآرائهم وما يقومون به، ويلقى الاحترام نفسه من الناس.
وفيما عهد به أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر ما يؤصل لذلك حيثُ قال:
(وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولاتكوننّ سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، واما نظيرك في الخلق) كما يهتم الشخص الناضج بأن يبقي عقله مفتوحًا ولا يربط نفسه بأفكار محددة؛ لكون الآراء والأفكار تتغير؛ لذلك هو منفتح العقل لكل من حوله وما يحيط به، يرفض ربط نفسه بفكرة معينة أو رأي معين يقيد فكره؛ ولذلك يرفض البعض الانضمام إلى الأحزاب والتيارات الفكرية التي تفرض عليهم أفكارًا معينة، كما يرفض الشخص الناضج فرض أفكاره وآرائه على الآخرين.
فقد ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام): «أعقلُ الناس مَن جمع عقول الناس إلى عقله».
كما يعرف الشخص الناضج أنه سيتلقى تقديرُ الناس وثقتهم به إذا أظهر ثقته وتقديره إليهم أولاً، وسوف يظهر الآخرون حبهم إذا عبَّر عن حبه لهم. الشخص الذي يبخل بإظهار مشاعره الإيجابية نحو الآخرين يبني جدارًا بينه وبينهم.
يعرف الشخص الناضج أنه لا يمكن أن يقرر للآخرين ماذا يختارون أو يفعلون، ولا يمكن أن يقرر للآخرين كيف يفكرون أو يشعرون. كما أن الشخص الناضج يعرف أن الناس أحرار، وإن أراد إقناعهم بشيء فعليه أن يكون منفتحًا في حواره، وأمينًا فيما يقول، ويبقى القرار للطرف الآخر، وهو مسؤول عما يختار.ومما قاله إمام المُتَّقين عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام): (لا محبّة مع المراء).
وهنا لنا وقفة على ماهية المراء لخطورة ممارسته والخوض فيه فالمراء لغة هو الجدال. والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشكِّ والريبة، ويقال للمناظرة: مماراة، وماريته أماريه مماراة ومراء: جادلته، أما معناه الاصطلاحي فهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع.
وحين ينضج الإنسان فإنه يرفض إظهار نفسه بصورة الشخص الكامل الذي يملك إجابات لكل الأسئلة. عندما ينضج الإنسان يتساءل من أنا؟ ويعترف بأنه يجهل الكثير؛ فيصبح شخصًا واقعيًّا، ويغلق الفجوة بين ما يعتقده عن نفسه وحقيقة شخصيته، ويبدأ البحث عن المعرفة والسعي نحو الحقيقة.ينجح الشخص الناضج في التغلب على الأفكار الداخلية التي تدفعه إلى الفشل؛ فهذه الأفكار والأصوات تجعل أصحابها يشعرون بالخوف من التجربة، والخوف من أفكار الآخرين، وأحيانًا تصيب الإنسان بالشلل، وتوقفه عن الحركة. وعندما ينضج الشخص يتخلص من كل ذلك، ويبدأ بمعرفة شخصيته، والسعي نحو النجاح.
الهوامش:
1- القرآن الكريم.
2- نهج البلاغة.
3- نهج الحياة نت.
4- معجم المعاني.