سيرة طالب «54»

من مذكرات المنتديات.. الشَّرَارَةُ

(نص فلسفي / جمالي / كربلائي)
يَتَفَكَّرُ فِي كُمُونِ آهَتِهِ
بِوَقَارِ زِلْزَالٍ
رَأْسُهُ هَاوِيَةٌ لِلصُّدَفِ،
يُخَاصِمُ القُبَّعَاتِ
لِأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُلَامِسَ الْعَالَمَ بِلَا كِيمْيَاء
وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ.. يُخَاصِمُ الْعُرْيَ
لِذَلِكَ
يَتَعَمَّمُ بِفِكْرَةٍ
وَيَهُشُّ عَلَى الْفَلْسَفَةِ بِقِلْعٍ
نُوتِيٌّ يَبْتَكِرُ الْيَابِسَةَ
يَتَفَكَّر.. يَتَفَشَّى تَفْكِيرُه بِغَزَارَةٍ
يَتَفَكَّرُ.. يُفَلْتِرُ فِكْرَتَهُ:
النَّاسُ أَقْمِشَةٌ.. وَالْهَوَاءُ إِبَر
وَبَائِعُو الْخُبْزِ يَتجَوَّلُونَ عَلَى حِمَارِ السِّيَاسَةِ
وَالسِّيَاسَةُ تَحْتَقِنُ بِالْكَلَامِ
وَالْفُقَرَاءُ يَعْتَصِمُونَ فَوْقَ سَفْحِ الشَّهْقَة
لَمْ تَزَلْ فَقَاقِيعُ الأَفْكَارِ تَتَنَشَّقُ الْمِيتَافِيزِيقْيَا
هَذِهِ الْمَرَّةُ، اعْتَكَفَ فِي زَاوِيَةِ فِكْرَتِهِ
رَاهِبٌ يُجِيدُ رَهْبَنَةَ الْعَقْلِ
صَارَتْ فِكْرَتَهُ تَهْذِي فِي أَطْرَافِهِ
أَحَسَّ بِسُخُونَةِ شَيْءٍ
شَرَارَةٌ صَغِيرَةٌ تَتَجَوَّلُ دَاخِلَ رَأْسِهِ
أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ.. ابْتَسَمَ كَمَنْ حَلَّ لُغْزًا
فَتَحَ يَدَهُ
وَنَفَخَ عَلَيْهَا.. فَانْدَلَعَتِ الثَّوْرَةُ.

شرارة الثورة، فكرة.. قراءة نقدية
الناقد صالح النبهان

يقال: إن صاحب “بالين” كذاب!! فإذا كان على مستوى “التفكر” فإن القول مضاعف الصدق هنا، ولعل ما يلفت النظر في هذا النص الشعري (الشرارة) للأخ علي الفرج، أن مفردة “التفكر” ومرادفاتها -إن صح التعبير- قد تكررت تسع مرات، وبكثير من الصدق والمباشرة، فإذا أضفنا ما تردّه الضمائر وسياق الطرح، نجد أن النص لا يخلو من تلك المفردة في كل سطر من سطوره الثلاثين، بما في ذلك عنوان النص “الشرارة”!!.

وإذا كان الشاعر يبني عالمه الشعري من إعادة ترتيب الأشياء في الطبيعة وبكل متناقضاتها وفقًا لرؤاه الخاصة جدًا، وهذا حق من حقوقه الأزلية التي يتفرد بها عن غيره من ممارسي فعل الكتابة، معلنا تمرده على قوانين العقل ومنطق الأشياء من حوله، فإن “الناقد” صاحب حق في هدم هذا التمرد وإعادة بنائه من جديد، وقد يتكرر معه الهدم والبناء، لملاحقة تلك “الفكرة” مستنطقًا (فيزيو – كيمياء) “النفخ” ورهبنة الميتافيزيقيا، ومن هذا المنطلق، تحديدًا، سيكون منهجي المتواضع اللا منتمي في القراءة، في تعمد طرح بعض التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها من داخل النص..

شاهد على التمرد
“الشرارة” نص شعري ينتمي لما يعرف بـ”قصيدة النثر”، ولعل أهم ما ترتكز عليه هذه “التقنية” هو عدم التمترس وراء رتابة اللحن والقوالب الجاهزة، ثم بناء النص من وحدة المتناقضات اعتمادًا على لغة التكثيف والإيحاء والرمز، لتكون القراءة / التلقي بعد ذلك مفتوحة على كل الاحتمالات والتأويلات، ولن يتأتى ذلك إلا بالاعتماد على الصورة الشعرية.

وكما وعدتُ في ملاحقة تمرد الشاعر (فنيًا وفكريًا) في هذا النص، كشهادة. كان (التمرد الأول) على نمطية القديم ورتابته في أغلب ما قرأت له سابقًا، هناك نص آخر ينتمي لهذا التصنيف الشعري، كنت قد كتبت قراءتي على هامشه في الملتقى العربي للحوار في ملتقى الأدباء، بحثت عنه في سبيل المقارنة والوقوف على تجربة الشاعر، وجدت القراءة، ولم أجد النص!!.

يبدو أن صديقنا “علي الفرج” قد سحب النص من أرشيف الملتقى. لا يهم، أعود.. هذا التمرد على النمطية كما أسلفنا، أتبعه بتمرد آخر (التمرد الثاني) على قوانين هذه “التقنية”، الجديدة إلى حد ما، قاده إلى (العبث) كثيرًا بذهنية المتلقي. فتكرار فعل “التفكر” وبهذا الكم الكبير، تصريحًا وتلميحًا، قد أخرج النص من هذه التقنية -كتعريف قابل للجدل- التي أراد أن يتبناها الشاعر. فالنص هو، وبكل اختصار: “شرارة الثورة، فكرة”.
فهل كانت “الثورة” وفلسفتها، في بعدها الطبيعي أو ما وراءه، بحاجة لكل هذا الاحتشاد اللفظي لمفردة “التفكر”، إذا ما سلمنا بحتميتها التاريخية والإنسانية.

وهنا سأسجل شهادتي على تمرد الشاعر (التمرد الثالث). دعونا نرى إلى أي مدى يصدق القول في هذا التمرد. إن أهم دلالة يجب تسجيلها هنا، تكمن في عنوان النص “الشرارة”، فالشرارة في بعدها المادي، أول فعل يتطلبه الإحراق، ولكن ربطها مباشرة بأول مفردة في النص “يتفكر”، يقود ذهنية المتلقي -التي أراد الشاعر أن يعبث بها في تمرده الثاني- مباشرة نحو البعد الحسي لمفردة “الشرارة”، فهي انقداح الفكرة في ذهن صاحبها “المتفكر”. فهل كان المتفكر المقصود هنا، بحاجة لكل هذا التفاعل (الفيزيو – كيميائي) لفعل التفكر، ليطلق شرارة “الثورة”؟!. وهل فعل “الثورة” ينطلق من مستجدات آنية فقط؟!! أم أنه كان حتمية كبرى قد لا تستدعي كل هذا الاحتشاد اللفظي لفعل “التفكر”.

أعتقد أن هذا التمرد كان تمردًا من خلال منطلقات “فلسفة” فعل الثورة التي أتقن الشاعر صياغتها فيما بعد في منتصف النص تقريبًا:
“الناس أقمشة.. والهواء إبر
وبائعو الخبز يتجولون على حمار السياسة.. والسياسة تحتقن بالكلام
والفقراء يعتصمون فوق سفح الشهقة”
ثم يعود الشاعر إلى ربط فعل التفكر مباشرة بـ”تنشق” الميتافيزيقيا، مؤكدًا اعترافه (في مقطع سابق) بحتمية الثورة كـ”فعل”، مدللًا على عمق هذه الفكرة في لا وعيه وفطرته الطاعنة والمغدقة في ميتافيزيقيتها في فعل “التعمم”:
“يتعمم بفكرة.. ویهشّ على الفلسفة بقلع.. نوتيّ يبتكر اليابسة”.

مما تقدم، أرى أن رسوخ الفكرة في وعي “صاحبها” لا يتطلب كل هذا الاحتشاد اللفظي المباشر، وغير المباشر لمفردة “التفكر”. بيد أن النص ما زال مفتوح الخاصرة. فهل نتوقف عند هذا التسليم، أم أن هذه الظاهرة تتطلب منا محاولة أطراف هذا النص الشعري للوقوف على كل أبعاده. أرى أن أمانة الطرح تتطلب مني المتابعة.

النص / الصورة
كنت قد جوّزت لمنهجي الهدم لأتم البناء، فكان البناء بداية صورة!!، ماذا لو أحصينا الفعل المضارع في هذا النص؟!! ستكون النتيجة مدهشة لا ريب، فشرط التفكر يستلزم “مضارعة” الفكرة، كما يستلزم عمق التفكر “كُمون” أشد من: كُمون آهة المتفكر، إذا كانت “الفكرة” بحجم تلك النتيجة / الزلزال، وهذا ما يفرضه أيضًا “وقار” الإمعان والتفاعل (الفيزيو – كيميائي) المتصاعد في حدة توتّراته الخفية في “تنشق” الميتافيزيقيا، انطلاقًا من توحده -المتفكر- بالطبيعة، ولا يمكن للطبيعة أن تسقط “الكيمياء” من حساباتها الأولية، فكيف تمّ لوقار الإمعان ذلك؟! ، وهل ما أسقط في عمومه، أم أنه كان حالة خاصة؟!. يستدرجنا النص ليكشف عن هذا الغموض فيما بعد، أي بعد “فلترة الفكرة” ليتضح أن الأمر كان حالة خاصة جدًا، لن تكرر، ولها علاقة وثيقة الصلة بـ”وعد الذين استضعفوا”، وإلا كيف يستطيع أن يقاوم كيمياء “الدم” وهو يرفعه نحو السماء: “اللهم تقبل منا هذا القربان”!!.

الصورة المتداعية
ثم يستدرجنا النص أكثر فأكثر في جزئه الثاني:
“لم تزل فقاقيع الأفكار تتنشق الميتافيزيقيا
هذه المرة.. اعتكف في زاوية فكرته
راهب يجيد رهبنة العقل
صارت فكرته تهذي في أطرافه
أحس بسخونة شيء:
شرارة صغيرة تتجول داخل رأسه
أمسكها بيده.. ابتسم كمن حلّ لغزًا فتح يده
ونفخ عليها.. فاندلعت الثورة”.

هذا الاستدراج الشيق، يشي بإشارة زمنية فاصلة بين بداية “التفكر” كفعل، وانطلاق الشرارة إيذانًا بانطلاق الثورة كفعل آخر، وربما، في مكان وفي زمان آخر..
وسأتجاوز هنا (متعمدًا) أقوال “رولان بارت” ومن يذهب مذهبه النقدي في قراءة البياض الفاصل بين أجزاء النص، أو بين أسطرِهِ كرمز دلالي خاص يعتد به في القراءة النقدية وفقًا لذلك المنهج النقدي.. أقول: تكفي هذه الإشارة لمعرفة الفترة الزمنية الفاصلة بين الفعلين (فعل التفكر، وفعل الثورة).

إن هذا الجانب التحليلي (الأخير) في القراءة، يكشف عن نص / صورة في مجمله، تكاد تكون -الصورة- معدومة الحركة، إنْ لم تصب بعدوى “الكمون” والسكونية لفعل “التفكر”. هي صورة تنتمي لنوع (الصورة المتداعية)، وهي -كتعريف- الصورة التي تقدم تداعيات متعددة مرتبطة بفعل ما، وهذه التداعيات تشكل ما يدعى بوحدة الجزئيات في النهاية عن طريق دفع كل جزئية، الجزئية التي أمامها مباشرة إلى الأمام حتى يتحقق الفعل التصويري المراد إيصاله إلى ذهنية المتلقي. هذه الصورة (المتداعية) هي صورة (كلية) بطبيعة الحال، تحتوي على صور (جزئية) متعددة، في ترابط وثيق فيما بينها. المثير هنا، واللافت للانتباه أيضًا، أن الصور (الجزئية) كانت أكثر حيوية وحركة وإثارة من الصورة (الكلية / المتداعية) لما لفعل “التفكر” واحتشاداته الطاغية على ظاهر النص من سكونية لا تخلو من بعض التمردات الفنية التي تفرضها رؤية الشاعر وتجربته، وحقه في إعادة ترتيب الأشياء من حوله.



error: المحتوي محمي