الصيف كما الشتاء.. فصلان وحيدان لا أكثر، نتشاطرهما من طقسنا.. يحتاج فيهما الفقراء إلى رعاية واهتمام.. وأكثر.
صيفنا غير، ابتداء من درجات حرارته المتصاعدة، وليس انتهاءً بقيم فواتير الماء والكهرباء الملتهبة والكفيلة بالتهام الفتات الذي يتسلمونه من جهات الخير الرسمية وهو لا يكفيهم ليتنفسوا من خلاله الأمل بحياة أكرم..
المعونات المقدمة للعوائل المعوزة عينية أو مادية من تلك الجهات المعلومة هي أقل من أن تفي بالحاجة والرضا سترًا عن العوز وحفظًا للكرامة، فما الحيلة إذا ما أحكم الصيف قسوته عليهم؟ في بيوت مداخلها إحباط ومخارجها سراب؟
ما حال الهواء الطلق.. والنسمة الباردة لأجهزة التكييف، والعاجزة عن الدوران لقدمها أو تعطلها بين ساعة وأخرى أثناء سبات المتعبين وصرخات الأطفال المتعرقين؟، ولعل بعضهم يحاول أن يعوض ذلك برشات من الماء وهو لا يدري أن الماء شحيح والخزان الصدئ فارغ، إما لعطل يتكرر في مضخة الماء المتهالكة، أو أن تسريبًا هنا وهناك قد حال دون الأمل بترطيب جسدٍ نحيل وشيبٍ ظهر قبل أوانه.
يا له من بؤس!.. كيف تستطيع تلك الأم المشغولة بنفسها أن تسكت أطفالها؟، لينام بعضهم كيما يستيقظوا غدًا باكرًا للذهاب للمدرسة وهم يتمايلون من النعاس والتعب.
فذلك البيت الضيق لا مكان فيه لفصل أحد عن الآخر كيما يكون في مكان معزول طلبًا للراحة أو النوم، فلربما كلهم في غرفة واحدة أو اثنتين واحدة منهما مشاركة مع الأبوين.
ويضيق الحال حين لا نجد من يتحسس عنهم سوى جمعيات الخير، ليقطروا في أيديهم القليل والمحكوم بنظام يعاود دراسة حالتهم، إن كان يستطيع تقليص ما يحتاجونه بدلًا من الزيادة أو العمل على بث الأمل في أروحاهم بصيانة هنا أو إصلاح عطبٍ هنا وأعطال هناك، فالمنزل ضاق على الرغم من أنه ارتفع طابقًا آخر بشق الأنفس وبمساعدة من صديق محكوم باقتراح وتصويت وموافقة خجولة بتقطير بعض القطرات في أياديهم من صنبور الدراهم.
يا للبؤس!.. ونحن نرى البيوت ظاهرًا كيف تخضبت بمياه الأنابيب التي انشطرت داخل أو خارج الجدران التي شاخت، ومواسير دورات المياه التي تشي عن وضع صحي متردٍ يحتاج علاجًا فوريًا.. ويا للبؤس ونحن ننظر لها هنا وهناك غير مكترثين حتى بالاستفسار أو السؤال!،، فلا يهمنا مظهر تلك البيوت المتهالكة ولا بما هو داخلها وهو الأدهى والأمر، فما بالنا بما هو أعظم وأقسى حين يكونون أقارب وأرحامًا، وكل قرانا وبلداتنا أقارب وأرحام.
منزل لا يساوي في اتساعه حجم مساحة غرفة واحدة من البيوت الحديثة، يضم داخله أسرة متكدسة على بعضها، وربما ضمت أزواجًا وأحفادًا، تأمل توفير احتياجات أخرى لا طاقة لمعيلها عليها يستطيع من خلالها توفير أدنى احتياجاتها، فالأسعار في تصاعد، لا تتراجع ولا تتوقف، والمعونات العينية والنقدية لا تحفظ ماء الوجه العفيف بالقدر الكافي، ولا يوجد هناك من يتحسس أحوالهم من أهل الخير والمعروف. والحياة تمضي بهم، وما علينا نحن سوى حضور مجالس العزاء تقديمًا للواجب الذي قصرنا عن تأديته بعد أن يموت بحسرته ذلك الإنسان الذي لم يعرف للحياة طعمًا ولا معنى، فلا أقل من أن “نتفشخر” بتقديم العزاء فيه: “عظم الله أجوركم.. طول الله عمرك يا بو فلان..
ويستأنس أبو فلان بثوبه البراق وغترته التي يفوح منها العود والبخور”.
تحسسوا أحوال الفقراء وأدخلوا البهجة على وجوه الأطفال، واحرصوا على جلب الحليب لأنه لا حليب يدر من صدور الأمهات الجافة المترهلة”.
لن يسألكم الفقير المتعفف الحاجة، حتى لو مات عطشًا وجوعًا، فاذهبوا له واتركوا حاجته على باب بيته إن كان لبيته باب.. وانصرفوا مشكورين.
وقفة :
يقول الشاعر الكبير : جاسم الصحيح
طيرُ النبوءةِ لم يبرحْ يُشَبِّهُ لي
في الحُلْمِ أَنِّيَ مخلوقٌ بأجنحةِ!
وحدي ولكنْ أُشَظِّي وحدتي بَشَراً
فيَنْطَوي في فؤادي كونُ أفئدةِ