في المساء حدثت حنان ياسمين، وطلبت منها أن يكون اللّقاء بعد ساعة في المقهى، الذي تم افتتاحه مُؤخرًا، سعيًا للخُروج من الّروتين، الذي يبعث على الملل.
وافقت ياسمين فورًا على طلبها دون تردد، فإنَّها في حاجة ماسة إلى تجديد رُوحها، وتغيير نمط حياتها اليومي.
إنَّها تهفو إلى استكشاف الأماكن؛ لإضافة مشاهد حياتية وطبيعية في تصورها الدّاخلي، وتنوع الشّخصيات، لتفتح لها آفاقًا جديدة، تُثري مُخيلتها، والتي تُساعدها على نسج نُصوص لها طابعها المُثري، والأكثر بهجة، ودهشة.
كما هو الفنان في ذائقة حنان، يشدها سراعًا، على قارب من الأمواج الهادئة، على ارتماء لونها الأزرق في عينيها، تهفو إلى هذا التّغيير، لتسكبه في قالب فنيّ، له شكل مُغاير عن الكلاسيكية، وتنبثق منه الجمالية.
بعد انتهاء حديثهما في الهاتف النّقال، توجهت ياسمين فورًا إلى تجهيز نفسها، لتكون مُستعدة إذا ما وصلت ياسمين، فإنَّ لها تجارب عديدة معها، تُخبرها بأنَّ الوقت في غُضون ساعة، وتأتي في النّصف ساعة.
صدق حدسها، لم تُوشك عقارب السّاعة أن تصل إلى نصفها، إلا وحنان، تنظرها في سيارتها.
هرولت ياسمين لها، تطوي السّلم، كطائر، يُغرد نشوانًا.
صعدت ياسمين السيارة، استقبلتها حنان بسعادة غامرة، كانت السّماء مُزدحمة بالغيوم، ورذاذ من حُبيبات المطر، تُلطف الأجواء، يتخللها قوس قُزح، لتبدو الشُوارع أكثر حميمية.
أين يكون المقهى؟ تسألها ياسمين
لا أعلم. تُجيبها حنان بابتسامتها المعهودة، كطفلة
وأردفت:
لدي الموقع، أرسلته عبير لي بالأمس، وأشادت به كثيرًا، وأكدّت بأنَّه سينال إعجابي مما أثار فُضولي لزيارته.
حسنًا، لنرى.
وما هو إلا وقت، حتى وصلتا، فانبهرت ياسمين بما أبصرته عيناها.
منظر خلاب، الخُضرة، تُحيط بالزّوايا، جلسة داخلية، مملوء باللّوحات التشكيلية، المقاعد لها طراز أجنبي الطلة، مُوسيقى، تبعث الهُدوء، وجلسة خارجية، تلفها الأشياء القديمة، كأنّما المكان، خليط بين الماضي والحاضر، كالتّحف التُراثية، تهيم الرّوح في استجلاب ذكرياتها، وتخيل ما تسكنه الذّاكرة.
هناك شيء آخر، سافر برُوح ياسمين إلى بحر التّأمل، بينما حنان، تُراقب ملامحها، حيث إنَّ المكان، يحتوي في الزاوية اليُمنى منه مكتبة، تزدحم بالكتب، مُنسقة بشكل جمالي، يُبهر، وبجوارها بعض من المقاعد، طاولة أخذت من القلوب نبضاتها، كأنَّها موعد لقاء، يبعث على القراءة بعُمق، يدعو إلى الانغماس في الكتابة، أو رسم لوحة تشكيلية.
المكان مُلهم يا حنان. تهمس ياسمين في انتشاء اللّحظة
المسافة بينهما لا تتعدى بضع طاولات، تُعد على أصابع اليد، لا تتجاوزها، ولكنَّها تحسّ بأنَّه يُقابلها، ينظر إليها، ويبتسم، يُحرك يديه على كرسيه المُتحرك، يشي باحتواء انجذابها، نظراتها.
لم يكن هذا الشّعور بمعزل عن حنان، هي الأخرى بين الفينة، وتوأمها، تنظر إليه، لتُوزع نظراتها بينهما، ترصد إيماءاته، حركة شفتيه، وهو يُوجه النّادل، وهو يُعطي الواقفين أمامه بعض الكتب، التي اختاروها، ويُسجل معلوماتهم في الحاسب الآلي، وتموجات احمرار وجنتيّ ياسمين، التي تضرب على الطّاولة بإصبعها في هُدوء الحالمين.
هذا ما يحدث إلى ياسمين، ترشف قهوتها، مع قطعة من الشّكولاته وضعتها بين أصابعها، وهي تُحدّق فيه مليًّا، كمُنقب عن شيء ما، تتحدث مع حنان، التي ترمقها بعينيها، ولكنَّها في كلماتها، تُناغيه بآهاتها، تستدعيه ما بين الفضاء الإلكتروني، ليكون واقعًا بين يديها، ليُبلسم بدفء رُوحه ما اعتراها من غُربة الرّوح.
في الحياة قد لا تكون لديك معرفة بشخص ما، ولكن عندما تسقط عيناك عليه في أيّ لحظة ما، في أيّ مكان ما، يُدخلك التّأمل في تفاصيله إلى خيالات، تضعك في عالمه، لتشعر بأنَّك تعرفه مُنذ زمن.
ثمّة علاقات ما، تربطك عنوة به، لا تعرف لها سبيلًا منطقيًا مهما اجتهدت في حلّ المُعادلات العقلية، التي يفرضها الواقع عليك، لتُفسر هذا الشّعور، الذي يعتريك الآن.