يذكر علماء التربية والنفس أن نظر الفرد لما يصدر منه وتقييمه حسب معايير الصواب والخطأ أمر مهم في تقدمه وتطوير قدراته وتحسين أدائه، وذلك أن وضع المعيار يشبه جهاز التصفية (الفلتر) للتنقية من شوائب الاشتباه والتقصير ومجانبة الصواب، وما لم يكن هناك جهاز تصفية للأفكار والسلوكيات فسيؤدي ذلك إلى الوقوع في تسلسل للأخطاء وسقوط في أتون التوتر في العلاقات الاجتماعية، فمن لا يمتلك جهاز التنقية سيكون كالبركان يرمي بحممه بكل اتجاه وسيصيب علاقاته بالاحتراق والقطيعة، فكما أن مدارج الرقي والتكامل يكتسبها ويتعالى في مراحلها الفرد من خلال تسجيل المواقف العملية، والتي تجلي في كل مرة صفات رائعة يتحلى بها أو صفات رديئة ونقائص قد تخلص منها ونزه نفسه من شوائبها، فكذلك مسلسل الأخطاء والهفوات وأوجه التقصير تفصح عن هوية وشخصية ضعيفة وإرادة لا تقوى على مواجهة عواصف الحياة العاتية.
النقد الشخصي مرآة النفس الكاشفة عما يحمله الفرد من خدوش وعيوب ينبغي ملاحظتها والتخلص منها؛ لينطلق في ميادين الحياة بأبهى الصور لشخصية عتية على السقوط في وحل العيوب، وخصوصًا إذا ما اقتحم المرء مكاره التجارب وخاض محطات الاختبار لقدراته وواجه الأزمات والمشكلات، فإنه بعدها ينكشف له سريعًا ومضات القوة التي أسعفته على تجاوزها بسلام وبأقل الخسائر، وأهم تلك الومضات هي امتصاص الصدمة والمفاجأة والحفاظ على هدوء النفس وتجنب التشوش الفكري والارتباك مهما كان حجم المشكلة وصعوبتها، فإن حالة الاضطراب النفسي ستكبل قواه عن البحث الحقيقي عن حلول ممكنة ومناسبة، وهنا تحضر الثقة بالنفس والتمسك بخيط الأمل وانفراج الأمور بقوة في تحفيز قواه وإرادته، كما أن سعة الصدر والصبر وتحمل الآلام النفسية وغيرها المصاحبة للأزمة يقفز به سريعًا نحو نهاية النفق المظلم لتلك المحنة، فالدروس والعبر المستلهمة من الأخطاء والخيارات غير الموفقة لا تذهب سدى، بل تعد عونًا وقبسًا ينير الدرب في المستقبل ويجنبه الاتجاهات والمنعطفات المشابهة، ولننظر على مستوى مشكلاتنا المتعلقة بدورنا الوظيفي أو على المستوى الأسري، فإن وقوع مشكلة لا يعد أمرًا غير مسبوق بل هو أمر عادي ويمكن التعامل معه بمهنية ومسؤولية وتعاهد للحلول الممكنة، ومع الأسف فإن كثيرًا من مشكلاتنا نتجت عن تراكمات وتهرب عن مواجهة العوامل المؤثرة وفقدان الصبر حتى تتبلور النتائج المرجوة ولو بشكل جزئي.
الفحص والتجوال بين الأفكار والقناعات المتولدة عندنا وكذلك السلوكيات وطرق التصرف مع الآخرين ومشاعرنا تجاه الغير، يولد وعيًا بالنفس وفهمًا واقعيًا لما نحن عليه ومن ثم يمكن الانطلاق في اتجاه التصحيح والتعديل، إذ هناك نقاط ضعف أو أخطاء كالتهور أو الغيرة الزائدة أو المزاجية أو مشاعر الانفعال السريعة أو ضعف التواصل مع الغير وافتقاد أكثر الآليات لياقة، تحتاج منا إلى الإحاطة بها وإدراك الآثار السلبية المنعكسة على شخصياتنا، فتقدير النفس والثقة في قدراتنا لا يتعارض مع حالة النقد الإيجابي لذواتنا، بل يعزز حالة التقدم والانطلاق نحو الأمام بقوة واقعية بعيدة عن الأوهام والأماني الكاذبة.
وقد ينظر البعض إلى عملية الفحص والنقد المستمر على أنها تنطوي على سلبيات وأهمها الشعور بالنقص أمام الشخصيات القوية والوقادة في فكرها ومهاراتها عند المقارنة بها، فلا يمكنه يومًا أن ينجح بالمستوى المتألق الذي يحقق من ينظر لهم بعين الإكبار والإعجاب، والحقيقة أن المقارنة بالآخرين تنطوي على كثير من السلبيات كالشعور بالإخفاق واليأس من التقدم والتطوير، ولكن هناك مقارنة إيجابية ومفيدة وهي المقارنة بين نفسه بالأمس واليوم وما اكتسبه من آليات النجاح والتفوق وما استطاع أن يتخلص منه من سلبيات وعيوب ونقائص ومعالجتها، والأيام رهن بإحداث ذلك التغيير الإيجابي من خلال استثمار الفرص والأوقات وتحويلها إلى وسائل وآليات لتخطيه المراحل وإنجاز أهدافه المرسومة، إذ هناك من يفتقد لآليات النقد لنفسه فيقع فريسة سهلة للوهم الزائف والسقوف العالية لآماله نتيجة لجهله بذاته، ويفقد المحرك والباعث نحو التقدم وهو الضمير اليقظ والواعي الذي يوقفه على دكة الأخطاء، وما نحتاجه في دروب الحياة وميادينها الوعرة هو أن نكون صادقين مع أنفسنا من خلال مرآة النفس الشفافة والصريحة والناقلة لواقعنا بحذافيره.