في مقال منشور بعنوان ”ماذا تعرف عن وحم الطعام PICA: فساد الشهية لدى الأطفال؟“، تناول الصديق العزير الدكتور حجي الزويد مرض ”بيكا“، وهو حسب تعريفه، ”الاستهلاك المستمر للمواد غير الغذائية، لفترة لا تقل عن شهر واحد، وتتسم بابتلاع مزمن أو متكرر لمواد غير غذائية كالتراب والطين والجص والصوف والفحم، والطباشير، والخشب، واللاصق «البلاستر»، والإبر، والخيوط وغيرها.“ [1] وأضاف أنّ “بيكا“ عند الأطفال ”يحظى باهتمام إكلينكي بالاقتران مع مشكلات سلوكية وطبية أخرى“. ثم استعرض الدكتور المسببات، والأضرار، وتقييم الحالات والعلاجات واختتم العرض بالتدخلات السلوكيّة. وقد أجاد الكاتب في تقديم مادة طبيّة للقارئ غير المتخصص بسهولة ويسر للاستيعاب.
ولكن تسائل بعض القراء عن صحة استخدام الدكتور مفردة ”وحام“ مع الطفل بقوله “وحام الطفل“ وهي خاصة بالنساء الحوامل، أي عادةً ما تمر فيه المرأة الحبلى باشتهاء أنواع معينة من الأطعمة وغيرها.
السؤال وجيه في المعطى اللغوي العام، لذا أحببت أن أبيِّن أنّ لا إشكال في استخدام الدكتور لهذه المفردة. وعادة ما تأتي اعتراضات أو تساؤلات مثل هذه لأسباب متعددة منها: ضعف الثقافة اللغوية، وظاهرة ”التبادر الذهني“، أي أن الفكر ينصرف للمعنى الأكثر شيوعًا والوقوف عنده. وهذه الظاهرة تستحق وقفة في مقال منفرد إن شاء الله. وتأتي أيضًا استفهامًا أو استعلامًا.
جواب السؤال:
نعم، في الأصل الوحم للمرأة الحامل، حسب ما تذكر كلُّ المعاجم اللغوية العربية، ولكن لا تبقى مفردة على حالها في تاريخها الطويل، بمعنى أنها تتعرض لتطور دلالي أو تطورات دلاليّة، سعة وضيقًا وغير ذلك.
يقول الزبيدي في «تاج العروس»:
الوَحَمُ، محرَّكة: شِدَّةُ شَهْوةِ الحُبْلَى لمَأْكَلٍ؛ هذا هو الأَصْل ثم اسْتُعْمِل لكلِّ مَنْ أَفْرَطَت شَهْوتُه في شيءٍ،
والوَحَمُ، ’محرَّكةً’ أَيْضاً: اسْمٌ لِما يُشْتَهَى؛ قالَ [الشاعر]:
”أَزْمان لَيْلى عامَ لَيْلى وَحَمِي“
أي شَهْوتي، كما يكونُ الشيءُ شَهْوةَ الحُبْلى، لا تُريدُ غيرَهُ ولا تَرْضَى منه ببدَلٍ، فجَعَلَ شَهْوتَه للِّقاء لَيْلى وَحَماً، وأَصْلُ الوَحَمِ للحُبْلَى.
والوَحَمُ أَيْضاً: شَهْوةُ النِّكاحِ؛ وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرابيِّ:
كتَمَ الحُبَّ فَأَخْفاه كما *** تَكْتُم البِكْرُ من الناسِ الوَحَمْ
وقيلَ: الوَحَمُ الشَّهْوةُ في كلِّ شيءٍ؛ وقد تَقَدَّمَ أنَّه مُسْتعارٌ مِن وَحَمِ الحُبْلَى.
والمثل: ”وَحْمَى ولا حَبَل“، يُضْرَبُ في الشَّهَواتِ ويراد به [أنّ الشخص] لا يُذْكَرُ له شيءٌ إلَّا اشْتَهاه. وفي [أساس الزمخشري] يُضْرَبُ للحَرِيصِ السائل ولا حاجَةَ به. ويُرْوَى: ”وَحْمَى فأَمَّا حَبَل فلا“، قالَ أَبو عُبَيْدَةَ: يقالُ ذلِكَ لمَنْ يَطْلُب ما لا حاجَةَ له فيه مِن حِرْصِه.[2]
في معجم مقاييس اللغة «أحمد بن فارس»:
بعد أن ذكر أنّ الوَحَم اسمُ الشَّيْءِ المُشتَهى، كما تقدم، وشاهده الشعري» أَزْمان لَيلى عامَ لَيلى وَحَمِي» وشرحه: أَي شَهْوتي كَمَا يَكُونُ الشَّيْءُ شهوةَ الحُبْلى، لَا تُريدُ غيرَه وَلَا تَرْضى مِنْهُ ببدَلٍ، فَجَعَلَ شَهْوَتَهُ للِّقاء لَيلًا وَحَماً، وأَصلُ الوَحَمِ للحُبْلى، قال ابن فارس: ومن هذا الاشتقاق ”وحمْتُ وَحْمَهُ“: كأنَّكَ اشتهيتَ ما اشتهاه. واستشهد بقول الأحوص الأنصاري «663م – 723م، العصر الأموي»:
إِذَا قُلْتُ: إِنِّي مُشْتَفٍ بِلِقائِها *** وَحُمَّ التَّلاقي بيننا زادني سُقما
وفي المعاجم العربية أيضًا، على سبيل المثال، «لسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزبيدي، وأساس البلاغة للزمخشري»: الوحم شدة الحرارة، تقول العرب: ”لَيْلَةٌ ذَاتُ وَحَمٍ“: أي لَيْلَةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، و”يَوْمٌ وَحِمٌ“: أي يومٌ شَدِيدُ الْحَرِّ.
وفي معجم الرائد «جبران مسعود»:
1- ”وَحِمَتِ الْمَرْأَةُ“: اِشْتَدَّتْ شَهْوَتُهَا وَهِيَ حَامِلٌ لِبَعْضِ الْمَآكِلِ.
2- ”وَحَمَتِ الْحُبْلَى الكَرَزَ“: اِشْتَهَتِ الكَرَزَ.
3- ”وَحِمَ الشَّابُّ الْجَوْزَ“: أَفْرَطَتْ شَهْوَتُهُ فِيهِ. «ومثله في «معجم الغني» لعبد الغني أبي العزم»
الخلاصة
المعنى المحوري للوحم هو الشهوة والاشتهاء، فكما تتوحم المرأة والرجل والشاب يشتهي الطفل أيضًا، وإذا تجاوز الحد الطبيعي المعقول أصبح هذا الاشتهاء هوسًا أو مرضًا، وهذا ما حاول الدكتور الزويد أن يلفت أنظارنا لهذه الحالة التي تحصل لغير النساء الحوامل، ومن هنا جاء ”وحم الأطفال“، وإن كنت شخصيًّا أفضل عبارة “الشهوات الغريبة“ أو ”وحم اشتهاء غير المألوف“ لترجمة المصطلح الطبي ”بيكا“ مع إضافة ”عند الأطفال“ إذا كان الكلام عنهم، على سبيل المثال.
إضافة طبيَّة ذات صلة:
وَحَم ”اشتهاء غير المألوف“ «Cittosis»
وهو رغبة ملحة شاذة لأكل مواد ليست ملائمة للطعام، كالخشب والأقلام والطباشير. وتتعرض لهذه الحالة النساء الحوامل، وقد توجد الحالة عند ذوي ”داء الإخضرار“ [3] ، وأنماط معينة من الهستيريا والجنون [4].
الهوامش
[1] انظر فقرة إضافة طبية أدناه.
[2] ومثله في لسان العرب لابن منظور، وتهذيب اللغة للأزهري.
[3] ”داء الاخضرار“ «Chlorosis» هو نوعٌ من أنواع فقر الدم تصبح فيه خلايا الدم الحمراء أكثر شحوباً من الطبيعي، حيث تكون خلية الدم الحمراء شاحبة من المنتصف وبالتالي تصبح خلايا الدم الحمراء أقل أحمراراً وتكون شاحبة من المنتصف ويصبح لونها غير متناسب مع حجم الخلية فتبدو شاحبة. انظر الرابط:
https://altibbi.com أمراض الدم
[4] انظر المادة في الرابط:
https://altibbi.com/amp/مصطلحات – طبية/امراض – نفسية/وحم
.