مضرَّجون بالعرق والكد والتعب، يتنفسون العمل، لا تشغلهم فلسفات الصوم ولا تنظيرات الطاعة، يعبدون الله حق عبادته، عباد مؤمنون على سجيتهم، يحيون نهارهم بحي على خير العمل، يسعون في مناكب الزرع وسط لفحات الهجير، رجال ونساء يتقاسمون الشقاء من الفجر للمغيب،
تنهيدة فلاح: (ربي ارحمنا من هذا المرار).
أي كرب، وأية قسوة تحت حرارة الشمس وحمم المواقد، تلك أيام عبوس قمطريرة نهشت أبدان الأولين، قطيف الأمس عصبها الاقتصادي تجارتا اللؤلؤ وصناعة “السلوگ”، مهنتان كانت الأرواح معلقة بين الحياة والموت.
ما أبصركم أيها الذاهبون! إلى الكد والكبد، كدبيب النحل تنتشرون، في ساحات وغى البساتين، أرجل تتسلق الشامخات وأيد تتلقى “الحدرات”، وحراك حول مواقد النار، ما حكاية المتعبين الذين هزمهم الجوع والعطش وأرداهم صرعى بجوار اللهب.
حان أوان قطف “بسر نخلة لخنيزية” والوقت يشير للأيام الأخيرة من شهر شعبان، صيف 1945م، الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها نهاية شهر يونيو، بينما في واحة القطيف تبدأ معركة من نوع آخر.
هبة جماعية وهمة عالية، فلاحون “يتحزمون بالكر” يصعدون نحو أعالي النخيل، يستلون المناجل بقطع أغصان العذوق، ويضعونها داخل “الحدرة” يعقدونها بحبل متين “البيطة”، وترمى من حافة سطح “الفگر”، تتلقفها الأيدي الناعمة والخشنة على السواء، كفوف تجرد الثمر “تخريط البسر” من “الشماريخ”، بوضعه في “الزبلان” الكبيرة، سواعد ترفع الزبيل الذي يربو وزنه “منين” وأكثر، يضعونه فوق الرؤوس أو الأكتاف، يسارعون الخطى بأقدامهم الحافية، يفرغون
السلال في جوف القدور المضطرمة نارًا.
أدخنة وأبخرة تفوح من أربعة مواقد، أستاذ الطبخ “أبو عبد محمد رضي آل هبوب” يقلب الثمار بالمغراف بين حين وآخر، بخبرته وتجربته ونظرته يقرر متى يستوي “السلوگ” والذي يتراوح بين نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة حسب اضطرام النار.
يأمر الرجال برفع “چيلات البسر” بالمغراف الشبيه بالملاس ذي المقبض الخشبي، يضعون المستوي في “الزبلان” ومع كل غرفة يتدفق الماء المغلي على الأيدي والوجوه والسواعد، بينما الجمر يلسع الأقدام الحافية، هي اللحظة الأخطر والأقسى خلال معركة “السلوگ”، بينما دخان الموقد يعمي العيون، ثم ينقل وينشر على “السميم” المنسوج من سعف النخيل، “حصير” كبير وعريض، نشر متتال على مساحة “الفدى” وعلى مدى أسبوعين يتبخر ماء البسر الناضج طبخًا، ويصبح يابسًا قاسيًا بعض الشيء لكنه عند الأكل “يتفتفت” في الفم بمذاق حلو، ثم يجمع بوضعه في أكياس “أخياش” وزن الواحدة 4 “أمنان” أي ما يعادل 64 كيلو، وتنقل بواسطة ظهور الحمير ثم تنزل وترتب مصفوفة على متن السفن التجارية، تنطلق من ميناء القطيف وميناء دارين، بحمولات أطنان وأطنان، تمخر عباب البحر تصديرًا لبعض دول الخليج والمدن الساحلية لإيران وكراتشي في باكستان وتصل لحدود القرن الإفريقي وتحديدًا زنجبار، والوجهة الرئيسة دائمًا ميناء بومباي بالهند.
إن قطف “بسر نخلة لخنيزية” قبل وأثناء نضجها، هي عملية اعتادها الفلاحون، من أجل صناعة “السلوگ”، ومدة صلاحيته في حدود ثلاث سنوات، هي تجارة رائجة ومدخولها مربح، كانت قوام حياة القطيفيين على مدى ثلاثة قرون مع تجارة اللؤلؤ، لكن المهلك والمتعب والمضني أن يصادف موسم القطف وطباخ السلوگ في شهر رمضان، يا له من هلاك مدمر للأبدان، كم سقط رجال أشداء على وجههم وغابوا عن الوعي من ضراوة الشغل وسط أجيج شموس”الگيظ” ولهيب النار واشتداد العطش، ألقوا بأنفسهم في “المساقي” الرطبة شحيحة الماء، ليبردوا أجسامهم الناضحة عرقًا والمتفتقة حرارة، تحمموا بالوحل، واصطبغوا بـ”نگعات الخمگ”، تفر منهم الضفادع فرًا وتنزلق على أجسادهم شبه العارية، يئن الرجال المنهكون، وبشهقة أنفاس شاب قوي البنية “عبد الله حبيل” الذي يصيح الغوث الغوث، يزفر الآهات وهو يشير إلى معاناتهم “صهجة الحرارة تگض الرأس وتهير البدن، شغلة طباخ السلوگ عذاب الله في الأرض”، لكن المغلوبين
على أمرهم أنقذوا أنفسهم بجرعات ماء وبعض من رطب!، شرفاء عمل أحسوا بتأنيب الضمير لأنهم أفطروا مجبرين نهار الشهر الفضيل!
قال أبو عبد الحاج محمد رضي آل هبوب -والد الفنان إبراهيم هبوب- لحفيده محمد حسين آل هبوب: “أصعب شغلة اشتغلتها يا ولدي واللي تكسر الظهر شغلة الصرام وقت للصيام واللي أتعب منها وأشد شغلة طباخ السلوگ في الگيظ، وهذه كانت مهنتي، ما أقدر اتعنز عن لقدر إن زاد الوقت أو نقص اختربت الطبخة، هلاك مجابلة النار، عمى عيون، وحرارة تضرب في الرأس صيام وجوع وعطش هدنا هداد ونتف ابدانا، چم واحد فينا فطر، لكن الله خير العادرين، واللي يتصبر ويتحمل مايجي آخر النهار إلا هو منهار يرتجف، چم واحد طب على وجهه متسودن من التعب والهلاچ، يا ولدي الغوص والسلوگ فنتينهم خطر في خطر، الواحد ما يدري ويش يجرى عليه، لا من طباخ السلوگ وسط الضيان تسلم ولا ركاسك في قاع البحر ادور المحار تسلم، عشنا المرار وفطسنا من الهلاك”؟!.
ما بين غدر البحر وأجيج النار، ينفث الآهات الحاج عبد الله آل حبيل ولد خال مكي بن عباس جد سلمان آل أمين، يستعيد أنفاس الذكرى أمام خال كاتب السطور، حسين هبوب، كانا يتحاوران عن عذابات الماضين وعرجا على “صناعة السلوگ”، يقول له: “تنصفني”، قال له: “نعم أنصفك يا حجي عبد الله لأني اشتغلت في أعمال شاقة وشفت الويل، قال: شوف يا ولدي أصعب عمل شفته في حياتي، مو صعابة العمل، لكن مرارة لشغل، نطبخ السلوگ ونجابه الضو، واحنا صايمين والوقت گيظ حمو ، مخنا فقع، عياوينا تفگت، گلبنا يدگدگ بقوة ، نقوم نتسدح في المساقي علشان نبرد على ابدانا بالخمگ من شدة الظمأ، هلكنا هلكنا، ويا طباخ السلوگ، شفنا الموت”.
لله دركم يا رجال الأمس! شبعتم أوجاعًا لمهنة فتاكة، حتى شركاء حياتكم كدحن معكم ونلن نصيبهن من المعاناة.
مع تباشير الصبح تخرج جدتي ليلى برفقة زوجها محمد هبوب مع أخويها عبد الله وحسن آل زرع بمعية زوجاتهم من محل سكنهم نخل “خليف” إحدى مزارع فريق الأطرش، يعبرون الدروب الندية ويجتازون مساقي الماء حفاة الأقدام.
يصلون لنخل “لمغيلية”، المسور بجريد النخل “حضار” عالي السور يحيط بالنخيل العالية، وبصوت توكلنا على الله يصعد الشاب حسن مهدي آل زرع “هاب الريح ” نخلة تلو أخرى ومع قص عذقين أو ثلاثة يضعهما في جوف “الحدرة” ويربطها بحبل فتنزل من عل، تتلقفها جدتي بكفوفها مثل احتضان وليدها، تفك الرباط وتأخذ منه العذوق، بينما نساء إخوتها يلتقطن التمر المتساقط أرضًا، ويجمعنه في “المرقط”، يحمله زوجها ويفرغه على امتداد الفداء، ويقوم أخوها عبد الله “يچنز” التمر في “الگلات” يرصه رصًا وإذا امتلأت “الگلة” يغلق فتحتها بخيط ومسلاة حبل.
حراك دؤوب لجني “الصرام” من ثلاث أمكنة، “نخل خليف ولمغيلية والصبخة” ابتدؤوا من يوم 27 شعبان 1946 إلى ليلة العيد، فقط توقفوا ليلة الوفاة احترامًا للإمام أما ليالي القدر فقد عبرت كما الليالي العادية!، ليس وحدهم معظم الفلاحين المرابطين تحت حصاد النخيل.
منذ لحظة الشروق إلى قبل المغيب بساعة جدتي مشتتة بين أشغال البيت والمزارع وفي نفس الوقت تربي ابنتها مريم -والدتي- ذات الأحد عشر شهرًا، لم تستطع إرضاعها من شدة الجوع والعطش، جف صدرها مؤقتًا، تلقفتها نسوة الأهل والجيران لكن الرضيعة أبت أن تشرب من صدر أحد!
أما فطور العائلة فما هو إلا أرز و”جماجم بصل” وسمك مطبوخ، ومعه يشربون ماء بوفرة ويبلعون كميات من الرطب.
يلقون بأجسامهم على “حصر” ممدة، والرأس على وسادة بالية، يتلحفون رياح السموم كأنهم خشب مسندة!
تؤلمهم بطونهم بسبب كمية السوائل، يفزون من نومهم عند منتصف الليل يلبون نداء الطبيعة!
تقول جدتي “ما شفت الويل إلا يوم كنت أربي بنتي مريم، الدنيا حمو مانفتر عن لشغل، صرام وتنفيع حيواين وطباخ وصيام، عطش وهلاچ وبعوض يقرص جسمنا طول الليل حرمنا من النوم، أيام الصرام فاحت چبودنا وانصلين من الشمس”.
كل نخل رجاله مستنفرون لقطاف المحصول، بسباق محموم، زفرة أحمال وآهات أشغال قطعت الأنفاس.
أيها الطاعنون في العمل لم تعرفوا سنًا للتقاعد، وبملء فيكم صورتم أنفسكم بحجم الكدح خلال شهر الصيام الذي صادف موسم جني السلوگ والصرام: “اللي قاعد في البراد ومتنعم يمديه يصوم الدهر كله، واللي قلبه منحمش من الشمس وتحت ضيان النار وذابحنه الحر والعطش يبغى الفكاك من شهر لصيام “. فلاحون حينما تأتي أيام الأعياد كانوا يتنفسون الصعداء.
يا أنفاس البراءة من دلكم على سفر السلوگ حينما أنشدتم لحظة رمي الدوخلة في حضن الماء:
“ياسلوگة العيد العيد، ودي ابي ابعيد ابعيد، وحججيه وزوريه وجيبيه بالسلامة، سلامة الغنامه”.
كان السلوگ زاد المسافر في البر والبحر، لكن وراء هذا الزاد الحلو مرارة عيش مر، وتحد بلغ منتهاه قوامه رجال ونساء أشداء.
تنهيدة:
إخوة أعزاء كتبوا عن مهنة الصرام وصناعة السلوق لكنهم لم يلامسوا تعب الفلاح القطيفي وشفاءه في تلك المهنة العسيرة، تلك كانت مشاهد تقريبية مع شهادات مروية على ألسنتهم وباللهجة الدارجة، لمصداقية القول، ولتقريب صورة رجالات الأمس الذين كابدوا مرارة العمل، ولكن من رأى ليس كمن سمع ومن عمل ليس كمن رأى!
ألف رحمة على أرواح من أنهكتهم الحياة في سبيل
لقمة العيش.