أصحاب المهنة الواحدة طيورٌ على أشكالها تقع!

أتذكر السنوات الأخيرة من حياة والدي – رحم الله كلّ أب – وهو مريض في الفراش كلما زرته يسأل: هل لا زالَ فلان يعمل؟ هل فلان لا يزال يعمل في البحر؟ ماذا عن فلان؟ هل لا يزال يفلح النخل؟ احتفظَ بأدواتِ الشغل ولم يرمها رجاءَ أن تعود له صحته ويحتاجها من جديد لكن لم تكتحل عيناه برؤية أدوات شغله مرّة أخرى ولم يُقدّر أن تعود له صحته وماتَ رحمه الله.

كنتُ آنذاك أستغرب؛ لماذا يسأل والدي عنهم؟ لماذا يهتمّ بهم؟ ومع السنوات اتضح لي أنه كان يتذكر أشياءً ثمينة وأوقاتًا جميلة وأناسًا – أو قل بعضًا من النَّاس – أحبهم! يتذكر العواصف الثائرة في البحر وارتعاشات برودة ماء البحر الواسع في برد الشتاء القارس والصيد الوافر أو الخيبات والعثرات، وتلك الذكريات هي المكافأة العظمى التي بقيت في حوزته من الزمن.

تذكرته عندما هاتفني في عيد الفطر هذه السنة واحد ممن بقوا في العمل؛ بعد أن تبادلنا التحايا فإذا بي أسأله ذات الأسئلة التي كان يسألني إياها أبي؛ هل فلان لا زال يعمل؟ متى ترك فلان العمل؟ نعم، كلنا مشتركون، أنا وأنتم، في تذكر الماضي والحنين إليه وإن كان الماضي في وقته بدا غير مريح! نحنّ إلى أوقاتِ شبابنا وصبانا وقوتنا؛ كلّ تلك الأشياء التي لم نهتمّ بها في سنوات الشباب، تعود غضّة إلى ذاكرتنا. نتذكر أيامًا كنا نسرع فيها مثل الأحصنة ونطير مثل العصافير.

المهنة أكثر من عملٍ أو واجب مشترك؛ هي حياة نقضيها مع غرباء في أول لقاء وننهيها صحبةً مع أصدقاء وأهل. أرواح متآلفة وطيور متشابهة؛ ترى الطبيب أقرب إلى الطبيب والمهندس في مهنته مع من يشاركه المهنة والمعلم مع المعلم والتاجر يألف التاجر وغير ذلك، كل تجمعه أيام العمل وطبيعة المهنة بشكلٍ أو آخر!

تنافس حادّ يقرب من التحاسد عندما نكون شبَّانا لكن سرعان ما ندرك أن في الدنيا متسع لأكثر من فكرٍ واحد وشخص واحد وأن ثمرة العمل ومسيرة الحياة ليست المال، إنما محبة الناس. حينئذٍ ينقلب التنافس إلى صحبة وزمالة وتعاون. وما ميّز جيل والدي والسنوات الأولى من فترة عملي هو غيبة وسائل التواصل، الموجودة الآن بكثرة! كنا نتحدث ونتواصل ونتخاصم ونتراضى، ليس بواسطة وإنما مباشرةً، وجهًا لوجه!

في كل الأحوال؛ أجمل التحايا لمن عملنا معهم وتنافسنا معهم وتَصاحبنا معهم وبقوا في الذاكرة. البعض مرَّ زائرًا ثم نسينَا ونسيناه كأن لم يكن، آخرون ضيوف أقاموا في الذاكرة فترةً من الزمن وارتحلوا، وآخرون سكنوا ولم يرحلوا. فإذا كنت شابًّا أو شابة تعمل ولديك أصدقاء، لا تفرّط فيهم؛ المال يذهب والعمر يمرّ وتبقى النفوسُ الطيّبة والذكريات الجميلة. يومًا ما تكون ممتنًّا لأن بقي لديك من يشاركك ذكريات أطول وأجمل فترة من عمرك.



error: المحتوي محمي