فرحة العيد الكبرى

يرتبط “العيد” بالفرح والسرور ارتباطًا وثيقًا، فيه تبرز مظاهر الفرح في أوجها؛ من ارتداء الملابس الجديدة، وتناول الأطعمة الفاخرة، ناهيك عن البهجة والسرور البادية في الوجوه وتبادل عبارات التهاني والتبريكات.

ولم يأتِ هذا الفرحُ من فراغ؛ فبالنسبة إلى عيد الفطر المبارك هو تتويج لعبادة جسدية وروحية شاقة استغرقت ثلاثين يومًا، امتنع فيها الصائمُ عن الأكل والشرب والملذات، لا لشيء إلا لأنه يريد ابتغاءَ الثواب العظيم الذي اُدِّخر له: “الصَّومُ لي وأنا أجزي عليه”. [الكافي، الشيخ الكليني، 4/ 63]. إنه يريد أن يُدخله ربُّه من باب الرَّيَّان الذي أُعِدَّ إليه [بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 93/ 252]؛ ومن هنا تأتي فرحته بهذا اليوم. هي فرحة استباقية لرجاء نيل هذا الثواب العظيم، إن شاء الله تعالى.
ومن هنا؛ توسَّع مفهوم العيد ليشمل كل يوم لا معصية فيه. عن أمير المؤمنين (عليه السلام): “إنما هو عيد لمن قَبِلَ اللهُ تعالى صيامَه، وشَكَرَ قيامَه، وكلُّ يومٍ لا يُعصى الله فيه فهو يومُ عيد” [بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 88/ 136]، فمن جهة من يعصِ الله لا يكون يوم العيد عيدًا حقيقيًّا له، وإن ظهرت عليه علامات الفرح، ومن جهة أخرى من يطعِ الله على طول الخط، فإن جميع أيامه عيد؛ سُلب مفهوم العيد عن قوم، وأطلق لقوم آخرين، وهم المطيعون؛ وعليه فالمؤمنون المطيعون لربهم هم في فرحة دائمة، لأنهم يعلمون بأن امتثالهم للأوامر الإلهية واجتنابهم للنواهي هو رصيدهم الذي يدخرونه لينالوا ثوابه لاحقًا. إنها التجارة الرابحة بينهم وبين ربهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف:10].

وحين يُردَّد على مسامعنا: “ليس العيدُ لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن أمن الوعيد”، ليس المراد منه أن لا نلبس الجديد، كلا، بل أن لا نضِّيع البوصلة، فنفرح بأمور زائلة ونغفل عن قضايا باقية، هي الجوهر والأساس والمحور.

وعليه؛ فإن علينا أن نعيش الفرحة في نفوسنا أولًا، لتنعكس على جوارحنا ثانيًا، في كلمة عذبة وابتسامة مشرقة وروح متألقة وقلوب منشرحة، ثم ننشر هذا الفرح لمن حولنا بدءًا من الأسرة ومرورًا بالأقارب والأصدقاء وانتهاء بالمجتمع بأسره. ينبغي أن نصنع الفرح في أنفسنا أولًا، وفي محيطنا ثانيًّا، أنَّى كان هذا المحيط: البيت، العمل، الشارع، المجتمع، …، في كل مكان. صناعة الفرح لا يكلِّفك كثيرًا. إن وجهًا باسمًا كفيل بتحققه: “تبَّسُمُك في وجه أخيك صدقةٌ”، [ميزان الحكمة، الريشهري، 2/ 1597]، بل “ما عُبد الله (بمثل) إدخال السرور على المؤمن” [الوسائل، الحر العاملي، 12/ 120].

ومع علمنا بأن الحياة مليئة بالمنغصات التي من شأنها أن تسلب الفرحة من أنفسنا، لكن ينبغي أن لا نعطيها الصدارة في حياتنا الشخصية (والاجتماعية). لا تكون العنوان الذي يجرُّنا أينما ذهبنا. في الوقت الذي نسعى فيه من تجاوز ما يواجهنا من عقبات مادية ومعنوية، في الوقت نفسه تكون أرواحنا متألقة، فـ”المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه” [بحار الأنوار، العلامة المجلسي، 64/ 305]. البِشر، بكسر الباء، هو طلاقة الوجه، فلا تظهر عليه علامات الحزن والكآبة، وإن كان هناك ما يوجبها من ضيق في الحياة المادية أو المعنوية.

إن هذا الفرح والسرور الذي نعيشه بمثابة طاقة إيجابية يساعدنا على مواجهة هذه المصاعب. إن من الناس من يحلو له العيش بحزن، والظهور بمظهر الكآبة، لا لشيء إلا لأن لديه مشكلات مادية أو معنوية لم يستطع تجاوزها. إن هذا ليس مبررًا كافيًّا لأن يتكوَّر على نفسه، فيظهر بصدر كاتم ونَفَس منقطع، سرعان ما يَبين على جسده بوجه عابس ونظرة متشائمة وكلمات سلبية وتأفُّف وضجر. هذه الحالة النفسية تؤثر على الأداء بشكل ملحوظ، فيعيش في ذات الدائرة، ولا يستطيع الفكاك منها. إنها أشبه بشرنقة يلفها على نفسه كل يوم حتى يكاد يختنق. يقول الطغرائي:
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
هذا الأمل لن يتحقق إلا بالتفاؤل والعيش بسرور وفرح في النَّفس أولًا، وفي الحياة من حولنا ثانيًا.

إن مناسبة العيد هي فرصة لنُعِيد تقييم واقعنا النفسي والاجتماعي.. لنجدِّد الحيوية والنشاط، ونسير بخُطى واثقة لتحقيق أهدافنا في الحياة؛ وصولًا إلى الغاية الكبرى والفرحة العظمى، وهي رضا الله سبحانه.



error: المحتوي محمي