يقول الإمام علي بن الحسين (ع): “إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ، وَيُحِبُّ كُلَّ عَبْدٍ شَكُورٍ”.
الحزن ظاهرة غير محببة إلى النفس، بل وردت نصوص تتعوذ منه، وترفضه ..
فقد روى الصدوق في الفقيه أنّ رَسُولَ اللهِ (ص) كَانَ يَقُولُ بَعْدَ صَلاةِ الْفَجْرِ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ”.
وفي الكافي يقول الصادق (ع) : “تَمْسَحُ بِيَدِكَ الْيُمْنَى عَلَى جَبْهَتِكَ وَوَجْهِكَ فِي دُبُرِ الْمَغْرِبِ وَالصَّلَوَاتِ وَتَقُولُ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْـهَمِّ وَالْـحَزَنِ، وَالسُّقْمِ وَالْعُدْمِ (الفقر)، وَالصَّغَارِ وَالذُّلِّ، وَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ”.
ولا يتعارض هذا الاتجاه مع اتجاه آخر..
يقول أمير المؤمنين (ع) : “إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً، وَسَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً”.
ويقول حفيده علي بن الحسين السجاد (ع): “إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ، وَيُحِبُّ كُلَّ عَبْدٍ شَكُورٍ”.
فمن هو القلب الحزين؟
فالقلب الحزين هو القلب الذي يعيش الإحساس بالله، وهو الذي يحمل آلام الناس ومشاكلهم ومآسيهم ومعاناتهم.. فالله تبارك وتعالى يحبّ القلب الحزين؛ لأنّ القلب يعيش أعمق شعور، وأطهر إحساس.
هو الذي عناه جلال الدين الرومي في كلامه:
الحزن يؤهلك للفرح ، إنه يجتاح بعنف كلَّ شيء خارج منزلك !
لذلك سوف يجد الفرح مساحة جديدة للدخول .
إنه يهز الأوراق الصفراء عن أغصان قلبك ..
فتنمو أوراقاً خضراء نضرة مكانها ..
ويسحب الجذور المتعفنة فتجد الجذور الجديدة مكاناً لها !
مهما كان ما يسقطه الحزن من قلبك ..
فإنَّ أموراً أفضل بكثير سوف تأخذ مكانه ذات يومٍ ..
وإذا قرأت قصة يعقوب (ع) في القرآن ستجد تراجيديا رائعة للحزنين معاً .. {قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}..
وفي هذا النص القرآني دلالة على أنّ فرط الحزن قد يفضي إلى أضرار جسدية جسيمة غير متوقعة، وقد أثبت العلم وجود هذا التواصل الدقيق بين النفس والجسد.. إلا أنَّ يعقوب (ع) ينفي أن يكون بحاجة إلى الناس، لينشر عليهم حزنه وأسفه، وإنما يرتبط بالله في سروره وفي حزنه.
فالإنسان الحصيف، يمكنه أن يرى الإشارات من بين ظلال الأحداث. وهو أنَّ يعقوب في خضم هذه الأحداث لم يمت الأمل في نفسه؛ لأنّ من يؤمن بالله لا ييأس، لأنّ اليأس من رحمة الله في معناه العميق كفر.
فعندما يعيش الإنسان الحزن على قضية ما، يحتاج حينئذ إلى تسويغ هذا الحزن، ليكون عنصراً فاعلاً في حياته.
إذن لا بدّ لنا أن نفسِّر هذا الحزن لأنفسنا، وأنّ هذا الحزن ليس حزناً ذاتياً، بل هو حزن ينفتح برسالته على كل مواقع الحياة، من خلال الذين يخدعون الناس باسم الإسلام، أو يقتلون حريتهم باسم الإسلام… الخ
فالحب والحزن في خط الحسين (ع) واحد لا يتجزأ ..
ربما نتذوقه ونحبه لأنه يحمل معه رسالة الله، ولأنه جاهد في سبيل الله، ولأنه أعطى كلَّ شيء يملكه لله.
وكأنني أسمعه ناي جلال الدين الرومي وهو يهمس متناغماً فيقول:
سأجد معناً جديداً .. لكلِّ حزنٍ وكلِّ ابتسامة ..
في السكون الموحش .. سأسمع صوت روحي فأعرفها ..
متحرراً من هذا العالم ..
سوف أطأ عالماً أبعد .. عالماً جديداً , حيث يكون المنتهى هو عين المبتدى ..
فما بالنا حملنا حزنه (ع) أربعة عشر قرناً ، ولكننا ضيعنا معالم رسالته ، وأصبح اسم (الحسين) سلعة على ألسنتنا ، لأننا ندعي (……) أننا نُصلح ذواتنا ومجتمعنا وعالمنا ..
صحيح أنّ المطلوب هو أن تستمر أجواءُ الحزن، وأن لا نخدش الجو العام للذكرى، ولكن من الصحيح أيضاً أن نؤكد أنّ الإمام الحسين (ع) ومعه بقية الأئمة كانوا أصحاب رسالة، لذا فإنّ معيار الإخلاص والمحبة لهم يتحدد من خلال الإخلاص للمبادئ والرسالة التي بذلوا التضحيات من أجلها ، ومن أجل ذلك لا بدّ أن تكون عاداتنا وتقاليدنا منطلقة من خلال رسالتهم الممزوجة بالمشاعر الحية والمحبة الصافية.
وكما يقول المرجع السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله: “الحزن الذي يتمثّل في عاشوراء، هو حزن الإنسان الذي يتفاعل مع قضايا المأساة، سواء كانت هذه المأساة في التاريخ، أو كانت في الواقع، والإنسان الذي لا يحزن لمآسي التاريخ، هو إنسان قاسي القلب، لا يمكن أن يحزن للمآسي التي تصيب الناس في حياته، مما يحصل لهم من مجازر وحشية ومن ظلم الإنسان للإنسان”.
فلا يجوز بأيِّ حالٍ .. -على اسم الحسين (ع)- مثلاً تجميد أو تعطيل استمرارية الحياة.. وأن تتجمد مصالح الناس العملية، وأن تتوقف مسيرة العلم والعمل.
فإن كان الحسين (هو القَتيلُ بلا إثْمٍ ولا حَرَجِ) ..
فكن أنت الصوت الحزين لمبادئه التي تستباح وتنتهك .