إن الحديث عن القطيف هذه المدينة العريقة بتاريخها المشرق والغنية بعمق حضارتها والتي تتسم بغزارة إرثها الإنساني الهائل والمليء بأحداثٍ ذات أسس وجذور متينة تضاهي من حيث طبيعتها مثيلاتها من الحضارات الكبيرة التي أسس لها بنو البشر الأوائل، وقد يجدُ كلُّ مَن يتوقُ للمطالعة والاكتشاف والإبحار في أمواج هذا الحقل التاريخي والثقافي الواسع ضالته لينسجَ مخطوطةً تتصفُ بفيض الفكر وتشعب المكنوز الأصيل بجميع مشتقاته الذي تكوّن من لدن أناس قطيفيين مضوا ولم يرتضوا لأنفسهم إلا أن يكون لهم مكانة متقدمة بين تلك المفاخر البشرية الشاهقة والمتعاظمة بدقة الإتقان وسحر الجمال.
إن المتابعين والمهتمين والمتذوقين للحركة والنشاط الإنساني بشكل خاص بأرض الخط بفروعها المختلفة كالشعر والأدب والنحت والرسم والتراث وغيرها من تلك الفنون الرائعة والتي هي قليل من فيض لتلك الحضارة المشعة والسيرة العتيدة ذات البعد المعرفي الكبير التي تزخر به تلك المدينة البديعة الخصباء بتنوع حقولها البازغة والمضيئة بنور علومها المختلفة بل وفي كل ميادين المعارف التي جاء بها بنو الإنسان على تلك المعمورة قاطبة.
وفي حقيقة الأمر لو أردنا الإبصار والتمعن بصورة أكثر تأملًا في تاريخ تلك الواحة الخضراء الفاتنة لوجدنا أنفسنا أمام سيل جارف من المعلومات هي من حيث واقعها غاية في الأهمية وذات جودة وقيمة تاريخية عالية تتصف بأنها متجذرة منذ زمن بعيد بل تعود لآلاف السنين ما يجعل تلك المنطقة وضواحيها أرضًا يقصدها الكثير من المؤرخين والكتاب وعلماء التاريخ والجغرافيا والآثار لكي يكملوا ما يخالج أفكارهم من طموح تجاه الوصول لمكتشفات قابعة تحت أتربة صنعت بأيدي أمة شخوصها مفكرون مبدعون عباقرة نقشوا من تلك الآثار عجائب محيرة للغاية وخلفوا وراءهم مقتنيات بارعة وثمينة قلّ نظيرها لكي يثروا بها القيم الإنسانية والمعاني السامية باعتبار أن هذا المنتج هو انعكاسٌ لصورةٍ حقيقية تحمل ما بين أطرها عظمةَ هؤلاء السكان الأصليين القاطنين تلك الأرض المزخرفة بجميل إبداعاتها وأناقة مكنوناتها وروعة ما حوته في باطنها من مقتنيات قيمة وذات جودة فائقة للمنجزات المتراكمة والمتتالية التي لا حصر لها ولفترات سابقة مضت ليست بالقصيرة بل ومستمرة حتى يومنا هذا.
لهذا لا عجب لما نشاهده ونعايشه اليوم عن كثب من مناخ يعجُّ بالمناشط الفنية والثقافية والعلمية وخصوصًا إذا ما علمنا أن ذلك المجتمع القطيفي منذ القدم وهو في حالة وثيقة من التواد والتحاب والألفة منقطعة النظير مع مناهل المعرفة بشتى تعدداتها المختلفة مما تمخض عن ذلك التمازج القيمي: الإعلان عن ولادة مكتسبات ومقدرات لا يضاهيها ثمن أبصرت النور وهي بطبيعة الحال لا يختلف عليها عاقلان بأنها عالية الجودة وبمواصفات عابرة للحدود وشامخة حتى وقتنا الحاضر، وكشاهد عيان على ما نحن بصدده من حوار: جبل (القرين) الذي يقع في الشمال الغربي من مدينة سيهات وبحسب المؤرخ حسين آل سلهام يعد هذا المعلم من أقدم المعالم في المملكة لاحتوائه على قبور تعود لحقبة ما قبل الإسلام وتعود تلك القبور (للكلدانين) الذين هاجروا إبان الحكم البابلي في العراق وهم يعتنقون الديانة (الزرادشتية) وهذا يدل على قدم هذه المنطقة، ونرى على الضفة الأخرى قلعة تاروت التاريخية ذلك البناء والحصن المشيد بطريقة محيرة للأذهان مما جعلها مقصدًا سياحيًا يبهر الكثيرين والمهتمين بالجانب السياحي والتراثي بشكل خاص ناهيك عن الكثير من الأماكن التي يقف أمامها الزائر مذهولًا من عظمة ما تراه الأعين من براعة التكوين ومتانة التصميم وروعة المعمار وحسن التشييد حتى تغدو النفس أكثر راحة وهدوءًا لما يشاهد من تحف فنية عالية الإتقان قد أجادها مبتكروها كمنطقة القلعة بوسط القطيف التي نستنتج من خلالها العقلية الفذة التي يتمتع بها القطيفيون القدماء.
وفي حقيقة الأمر عزيزي القارئ لو أردنا الحديث بشكل أكثر توسعًا عن تلك الآثار التي تختزلها هذه المدينة في باطنها لما استطعنا حصرها حتى بمئات المقالات فكتب التاريخ بهذا الشأن تعج وتتزاحم بكثافة الحقائق التي تحكي سيرة منطقة كلها عطاء، ومن تلك الكتب -التي لا حصر لها والتي أسهب كتّابُها من خلال ما قدموه من حقائق ومعلومات موثقة تحكي العمق العريق لمدينة القطيف وضواحيها- كتاب (المنطقة الشرقية حضارة وتاريخ) وكتاب (جزيرة تاروت التاريخ والجغرافيا) ومنها أيضًا كتاب (القطيف دراسة في التاريخ القديم) وكتاب (القطيف ساحل الذهب الأسود) وكتاب (القطيف وبلاد البحرين) وأيضًا (القطيف هذه بلادنا) وكتاب (خليج القطيف) وما هذه الكتب إلا قليل من كثير تحدثت بتفاصيل أكثر عمقًا ودقة عن تاريخ يتعلق بأرض كانت وما زالت تنجب عقولًا تقدم كل ما يثري الجانب العلمي والمعرفي والثقافي للقاصي والداني بشكل عام.
ومن هنا نزعم قائلين أن ما نشاهده عن كثب اليوم من أنشطة أدبية وفنية مختلفة كالندوات الثقافية والأمسيات الشعرية ومعارض الرسم وأعمال النحت والحرف المتنوعة وكذلك معارض التصوير الفوتوغرافي والكثير من المناشط الاجتماعية التي تحاكي الثقافة الخاصة بتلك المنطقة الجغرافية المميزة من مملكتنا الغالية -مما أكسبها تألقًا كمنطقة لها موطئ قدم راسخ في عالم النور والإبداع- ما هو إلا نتاج حلقات مترابطة توارثتها أجيال متعاقبة حتى وصلنا لما نلمسه ونعايشه اليوم كحقيقة وبصورة جلية واضحة لا شوائب ولا غبار عليها حتى اكتملت تلك الصورة من خلال ذلك الزخم الكبير من إقامة تلك المحافل الاجتماعية التطوعية في معظمها والتي تبرز نتائجها بشكل يبهر العامة من مرتادي هذه المناشط الفنية والأدبية والعلمية حتى أصبحت منطقة القطيف وما جاورها كسيهات وصفوى وغيرها الكثير مناطق يشار لها بالبنان على مستوى مدن مملكتنا المصونة وغدت مثالًا يحتذى لكل من تستهويه تلك الأجواء المفعمة والمليئة بالترابط وروح العمل ووحدة الفريق. وهذا مما لا شك فيه سينعكس إيجابًا على اللحمة المجتمعية بشكل خاص وعلى إبراز وإعلاء اسم بلادنا في الإعلام الخارجي بشكل عام وبالتالي نسعى وبكل ما أوتينا من إمكانات أن نضع دولتنا في قالب ذهبي ينظر لنا أننا متحضرون ومتقدمون ومبدعون بين سائر الأمم وأن نتخذ وبسواعد أبنائها المخلصين مكانًا مميزًا متقدمًا مشرفًا يليق ببلادنا بلاد الحرمين الشريفين عربيًا وإسلاميًا وعالميًا وهذا بطبيعة الحال حقٌ لكل دولة أن ترتقي وتصل إلى سقف المعالي بهمة أبنائها نساء ورجالًا حتى يتحقق ويعلو صوت الأمل المنشود.