وقفة صمت

هناك بعض العادات والتي ليست لدينا حيث يقف البعض دقيقة صمت حدادًا على الشهداء أو من يكون لهم شأن وتأثير على الآخرين، وربما يكون المقصد هو أن يكون الصمت احترامًا لهم حيث يصمت الجميع ويشكل البعض صمته بصلاة ودعاء يدعو به للروح الراحلة.

قد تكون لبعض الشهداء نفحات تعد دروسًا تحتاج وقفة صمت لتأملها والخروج منها بعِبرة وموعظة ترتقي بنا وبحياتنا ليكون لها معنى مثل حياة الشهداء المليئة بالمعاني.

ولا أجد شهيدًا صاغ أرقى معاني الشهادة بدمه الطاهر مثل الحسين(ع) الشهيد، ومن قبله والده أمير المؤمنين (ع).

بالطبع حياة أمير المؤمنين (ع) لو تناولنا فيها يومًا واحدًا فقط من أيام حياته لأخذنا كنوز ا جمّة من خزينة باب مدينة علم الرسول (ص)، وبالتأكيد هذا الشبل من ذاك الأسد.

ويكفيني أن أرسم خطوطًا عريضة من دروس اليوم الذي سبق ذاك الفجر الذي كان سلامًا على الجميع إلا على علي (ع).

فعلي (ع) صاغ لنا حكاية تحتاج وقفات مطولة من الصمت لنتأملها ونستوعبها فربما كنا نمر عليها مرور الكرام ولا أستطيع ذكرها جميعا لأني لا أستطيع الوفاء بحقها، لكن بدايتها من إفطاره الذي كان يتقاطر منه الزهد في المطعم والمشرب، جاءت له ابنته بطبقين واعترض عليها ذلك لماذا؟
كي لا يخالف اتباعه لرسول الله فما قُدم له إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله، حتى نتعلم نحن كيفية الاتباع التي أقله عدم الاستسلام أمام شهوة عند طعام.

لا بل أضاف نسمة من حكمته حيث قال لابنته: “يا بنية ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلا طال وقوفه بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة”، وكم نعمل ونغدق على أنفسنا ليطيب مطعمنا ومشربنا وملبسنا ولا نلتفت لضريبته في طول الوقوف بين يدي الله؟، وهل فكرنا يومًا في التوقف كي لا نتوقف أمام الجميع؟

وقفة أخرى حين كان يتلمس السماء بعينه ويرى علامات استدعائه لجوار ربه والتي كانت تأتي تباعًا، مع كونه سيد المتقين ومولى الموحدين وعبد الله الصالح الذي لا يختلف اثنان على أحقيته بالجنة فهو قسيم الجنة والنار وولي الله المختار، لكن علي كانت تتملكه رهبة لقاء الله وكان يقول اللهم بارك لي في لقائك، فكان يحتاج مباركة إلهية ليكون اللقاء كما يرتضيه الله، أكان هذا الدرس يفوتنا عن تأمل جمال علي فيه لنأخذ منه شيئًا من خشية الله ورهبته حتى وإن عملنا ملايين الأعمال الصالحة؟

وحتى الأوز التي صاحت في وجهه وهو ذاهب ليلقى ربه أحسبها كانت تودعه وتقرأ ناعيته، أكان هذا الموقف قليلًا حتى نخرج عن صمتنا في لياليه وننعاه نحن أيضًا فليس الأوز فقط من يحزن في توديع مولاه، فالبشر أيضًا يبكي ويصيح بأعلى ما لديه في حبائل صوته وداعًا يا علي.

الباب الذي تعلق في مئزره، كان بوده الانغلاق كي لا ينفتح باب المصيبة ويعود على أهل بيت الرسالة من بعد باب فاطمة، لكنه حل مئزر الإمام ليجعله يشده وهو يسجل حكمة لتاريخ البشرية كان فيها ينعى نفسه بقول:
أاشْدُدْ حيازيمك لِلْمَوْتِ فَإنَّ المَوْتَ لَاقِيْكَا
وَلَا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا حَلَّ بِنَادِيْكَا
وَلَا تَغْتَرَّ بِالْدَّهْرِ وَإِنْ كَانَ يُوَاتِيْكَا
كَمَا أَضْحَكَكَ الدَّهْرُ كَذَاكَ الْدَّهْرُ يُبْكِيْكَا

وقفات كثيرة حصلت مع أبنائه وبناته وحتى حين ذهب للمسجد وإيقاظه النائمين للصلاة وحتى مع رؤيته لقاتله كان حنانه عليه بموعظته التي وجهها للعالم عن طريقه حيث قال له حينما رآه نائمًا على وجهه: يا هذا، قم من نومك هذا فإنّها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النّار، بل نم على يمينك فإنّها نومة العلماء، أو على يسارك فإنّها نومة الحكماء، ولا تنم على ظهرك فإنّها نومة الأنبياء.

وقوله له: “لقد هممت بشيءٍ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك، ثم تركه وعدل عنه إلى محرابه”، كانت شيئًا يفوق توقعات أي إنسان بمجرد علمه بمن يلحق الأذى به والذي يصل للقتل أن يكون التعامل هكذا وكأنه يعطيه فرصة لمراجعة نفسه قبل أن تقوم الدنيا من الفاجعة التي ستعملها يداه.

في كل السقطات التي يسقطها الإنسان في حياته قد يشعر بالهزيمة إلا علي فسقوطه على مصلاه وهو مفلوق الهامة كان فوزًا مؤكدًا بقسم حين قال: فُزتُ ورب الكعبة، على الرغم من أن حياته لم تحمل أي هزائم فحياته انتصارات جمّة على النفس أولًا ثم على العدو، لكن هذا الفوز الأخير الذي يختم به حياة الانتصارات الباهرة.

وقفة صمت أخيرة حين نادى جبرئيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: “تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عم محمد المصطفى، قُتل الوصي المجتبى، قُتل علي المرتضى، قُتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء”.

وهناك سؤال راودني يستدعي الوقوف لماذا قال جبرئيل قُتل علي المرتضى ولم يقل ضُرب علي المرتضى؟ فأمير المؤمنين لم يمت من فوره حتى لو كانت الضربة مؤدية لاستشهاده، لكن لو سمعنا نحن مناديًا ينادي أن فلانًا قُتل فسوف يتبادر لأذهاننا أنه قُتل فعلًا وفارق الحياة، فكيف بكلام يأتي من السماء أن يحمل تعبيرًا قد نعده غير دقيق؟.

ومن قال أن عليًا لم يُقتل في فجر التاسع عشر من شهر رمضان؟

علي قُتل حين قُتلت فيه الصلاة، علي قُتل حين لم يتم صيام شهر الله، حسرة عدم أداء الواجب قاتلة لهذا كان الموت هادمًا للذات وموت علي بهدم لذته بأداء العبادة والواجب أمام الله، علي قُتل حين لم يقوَ على القيام إلا بمعاونة أولاده وهو قالع باب خيبر، فالقتل معنويًا قد يكون أبلغ من القتل الجسدي.

نحن لماذا نعد يوم الهجوم على الدار يومًا عظيمًا ويمثل مقتل الزهراء الأكيد حيث هو المسبب لعلة استشهادها؟

لأنه في اليوم الذي انهتك سترها وحجابها المصون وتم ضربها أمام جمع غفير من الناس، الزهراء قُتلت في يومها، حسرة على واجب لم يتم احترامه ومراعاته.

مولاتنا زينب في اليوم الذي قُتل فيه الحسين (ع) وتم سبيها بعده كان هو يوم وفاتها وقتلها، حتى لو كانت لسنة ونصف هي في الحياة تتنفس لكن أنفاسها مطعمة بطعم الموت والحسرة بعد سبي وشماتة.

جميعها وقفات صمت تحتاج الإبحار في معناها، وإن لم نستطع أن نهديها دقيقة صمت للتأمل فما نفع الدقائق في حياتنا؟

فيا شهر الله في يومك الأليم الذي لم يكن مطلع الفجر في التاسع عشر منك عاديًا بل كان موجعًا حد النخاع، لا زلت أسألك هل أنا في سُفرة من وقفات الصمت فيك، أم في سَفرة عنها؟



error: المحتوي محمي