المناسباتُ الدينيَّة.. نسقٌ ثقافيٌّ مضمرٌ

منذ ظهور الشرائع، بل ربما منذ انبثاق الإنسانية على الأرض؛ اعتادت البشرية الاحتفال بالمناسبات المختلفة، خصوصًا ما تعلَّق منها بالأمور الغيبية؛ حيث يتجه العقل ناحية تفسير الظواهر الكونية، واللا مألوفة، عبر نسبتها إلى محرِّك خفي، يؤثِّر في استمرارها وديمومتها، أو في منعها وزوالها؛ كظواهر الكسوف الشمسي، والخسوف القمري، والاعتدالين الربيعي والخريفي، والانقلابين الصيفي والشتوي.

قد تذهب الظواهر وتزول، لكنَّ أثرها يبقى حاضرًا في الأذهان والسلوكيات، فالشعوب تمتلك ذاكرة حيَّة وخِصبة، تمدُّها بما تحتاج إليه من خيال، يُسهم في بناء حاضرها ومستقبلها؛ كالشعب الفارسي حين يحتفل بـ”يوم النوروز”، أو الشعب المصري حين يحتفل بـ”عيد شم النسيم”، أو شعوب أخرى تحتفل بذات التاريخ، المصادف للاعتدال الربيعي، وانتقال الأرض لموسم الخصب والنماء، حيث تُقام المهرجانات، وتروى القصص، وتنشد القصائد، وتتوالى الابتهالات لنجاح موسم الحصاد، وزيادة عطاء الأرض.

استمرَّ حضور أثر الظواهر في الأذهان والسلوكيات بدون انقطاع، وصولاً إلى الأزمنة الحاضرة، حيث الثقافة لا تتوقف عند حدٍّ، أو تاريخ؛ إلا إذا تمَّ قطعها عن سياقها؛ مثلما حصل مع الرومان واليونان، الذين انقطعت علاقتهم مع الوثنية، عقب انتشار المسيحية على أرضهم، فأُغلقت المعابد، وتوقف تقديم القرابين إلى الآلهة، كما تم إيقاف الاحتفالات والمهرجانات المقامة باسمها، ومع مجيء عصر الأنوار، وتغليب العقل والمنطق على ما عداهما؛ تم التخلِّي عن الخرافات، وترك الإيمان بالغيبيات المخالفة للعلم، والمعرفة، والتقنية، فتخلَّص الأوروبيون بذلك من أفكارٍ وعاداتٍ انتشرت زمن الجهل والظلام.

تزدادُ مسألة الإيمان تعقيدًا وخطورة، حين تتعلق بالديانة والانتماء، فأوروبا المسيحية مختلفة عن أوروبا الوثنية؛ حيث المسيحية حاضرة في الأذهان والأعراف والعادات والتقاليد، بمساعدة أسبابٍ كثيرة؛ كانتشار الكنائس، وإقامة قُدَّاس يوم الأحد، وحضور المؤمنين إلى الاعتراف، والأكل من خبز المسيح، بينما الوثنية تراجعت، وزالت آثارها، ولم يبق منها ما يمكن الإشارة إليه، سوى بضعة أمور لا تُشكِّل فارقًا في حياة الناس، إذ لا يدركون حقيقتها، وصلتها بما حدث قبل أزمنة طويلة على وجودهم.

ظلَّ الانتماءُ الديني المؤثرَ الأكثر فاعليَّة في سلوكيات الإنسان، إذ عبره يستطيع المرء تشكيل حياته، وتنظيمها، وفقًا لتعاليم الكنيسة، أو الكنيس، أو المسجد، أو المعبد، أو غيرها من مراكز تأدية العبادات، ونشر الديانات، فحيثما اتجه؛ وجد أمامه (مَن / وما) يعمل على تذكيره بهُويته، ووجوب زيادة تمسُّكه بمكوِّناتها، ومحافظته عليها، وقد عدت هذه الوظيفة من أهم وأشرف وظائف المتديِّنين؛ حيث يعملون على زيادة أعداد المؤمنين، وتقوية ارتباطهم بالله سبحانه.

مثلما حثت المسيحية أبناءها على حضور قدَّاس الأحد، والاعتراف بالذنب أمام الكاهن، والصيام أيام المناسبات الكونيَّة المميَّزة؛ كالاعتدالين والانقلابين، والاحتفال بالأعياد المختلفة؛ كالبشارة، والعنصرة، والفصح، والغطاس، والصعود، حث الإسلام أيضًا أتباعه على الذهاب إلى المساجد؛ لتأدية الفرائض، والعودة إلى الله بالتوبة عند ارتكاب المعاصي، وصيام أيام الإثنين والخميس من كل أسبوع، إضافة إلى صيام كامل شهر رمضان، والاستعداد للسفر إلى مكة؛ تلبية للنداء الإلهي بإقامة شعائر الحج.

آثار كثيرة دالَّة على حضور الديانة في حياة الناس، وكيفية تقييدها وإطلاقها لحركتهم؛ وهو ما يشير إلى عمق تجذُّرها في الوجدان والذاكرة، فكامل معيشتهم تتعلق بها وبكيفية إدارتها، لذا لا غرابة في انسجامهم معها، وتلاقيهم وإياها قولًا وفعلًا، حيث للمناسبات المختلفة حضور في وعي الناس ولا وعيهم؛ لأنها تعمل على تشكيل أفعالهم وأقوالهم تجاهها، إذ تجعلها تصدر بعفوية وتلقائية؛ كما في الاحتفالات المتصلة بالدين، مثل: المولد النبوي، وتجهيز المصريين لمحمل الحج، وقدوم شهر رمضان، أو في الاحتفالات المتصلة بالأحداث الاجتماعية، مثل: الزواج، وقدوم المولود، وختان الصبي.

مواسم
لا تحدث الاحتفالات الدينية والاجتماعية ضمن لحظة واحدة، أو في وقت متقارب، فتوزيعها يشير إلى أنها تغطِّي معظم شهور العام الهجري، الذي يُعد بذاته أحد أهم الأحداث الإسلامية، حيث الانتقال من التاريخ الشمسي إلى القمري، والتأسيس على هجرة النبي “ص” من مكة إلى المدينة؛ يمثِّل انقلابًا للتاريخ، وتراجعًا للنفوذ والتأثير الإغريقي، ثم الروماني، على حياة أبناء الجزيرة العربية، ومن انضمَّ إليهم من الشعوب لاحقًا، فالمسلمون اعتادوا على الاحتفال سنويًّا بهجرة النبي عبر الترنُّم بالأبيات الشهيرة “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع”، التي باتت أيقونة من أيقونات الأدب، تمثَّلها الكثير، ولا زال آخرون يتمثَّلونها، وينسجون على منوالها.

الأدب الأيقوني المصاحب للهجرة النبوية، ليس إلا تعالقًا واحدًا من تعالقاتٍ كثيرة بين الأدب والدين، فتشجيع الشعراء منذ زمن النبي؛ أثار مسألة الاستفادة من المناسبة في الدعوة، وبيان مكانة النبي، وتعاليمه، وأهمية المحافظة على الفرائض، والواجبات، وضرورة احترامها، والعناية بها؛ لذا تم الاتجاه إلى تأليف الأهازيج والأشعار للمناسبات، ثم مُزج التأليف بالترجيع والتلحين، ما جعل لها وقعًا قويًّا على المتلقي، إذ العرب أمة صوتيَّة؛ تهتم بالسَّماع، واختيار الكلمة، وحسن جرسها، وقوة وقوعها على السمع، وهو ما يكشف عن قدرة فذَّة لدى الأوائل في فهم طبيعة الإنسان، وكيفيَّة التأثير عليه، واستمالته.

أسَّس الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام؛ نظامًا دينيًّا واجتماعيًّا، متكاملًا ومتداخلًا، عِماده أمران، أولاً: أصبحت حياة النبي محورًا أساسيًّا من محاور حياة العرب والمسلمين، الذين باتوا يسترشدون بها، ويسيرون بسيرتها وطريقتها، فتم الأخذ بها، ومراعاتها عند إحياء، وتأسيس المناسبات؛ بداية من هجرة النبي وغزواته، ومرورًا بمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، ثم تأسيس الدولة الإسلامية، وصولًا إلى فتح مكة، ثم إقامة العيدين، والاستعداد لموسم الحج، واستقبال وفود القبائل، وليس انتهاء بزواج ابنته فاطمة، أو وفاة أبنائه إبراهيم والقاسم وعبد الله. ثانيًا: استثمار العرب طاقاتهم الأدبية، وإمكاناتهم اللغوية؛ من أجل رفد المناسبات بما تحتاج إليه من كتابة وتأليف، فلم تُترك مناسبة، أو حادثة؛ إلا وتم توثيقها شعرًا ونثرًا.

سيرة النبي وبلاغة العرب؛ أمران تم الاعتماد عليهما في تأسيس المناسبات وتصنيفها إلى فرح وحزن؛ فإذا كان قدوم شهر رمضان مناسبة فرح تستحق الاحتفال عبر الترنم بالأهازيج، والأشعار، والأناشيد، والابتهالات، وتلاوة القرآن، وإقامة مجالس الذكر، والتقرب إلى الله، والاستعداد للتراويح، والاعتكاف، وملازمة المسجد، إضافة إلى الشراء من الأسواق، وطبخ أشهى المأكولات، وعمل المهرجانات، وتزيين الشوارع والمنازل، فإن وفاة النبي ورحيله عن الدنيا، ومفارقته للأمة، تعدُّ مناسبة حزن شديدٍ؛ إذ ألقت بظلالها على المسلمين منذ العصر الأول، حيث قيلت الأشعار والخطب في رثائه، والتفجع على فقده، والحنين إليه، والشوق لملاقاته، ولا زالت بعض طوائف المسلمين؛ تحتفل بذكرى رحيله ببكائيات، ورثائيات، وموشحات؛ تلهب مشاعر الناس، وتستدرُّ دموعهم.

للأدب حضور بارز في الاحتفالات المختلفة؛ سواء أكانت احتفالات فرح أم حزن! ما يشير إلى أهميَّة الكلمات، وقوة تأثيرها على النفس الإنسانية، وهو أمرٌ أدركه السابقون، وشيدوا على أساسه نظام المناسبة، وطريقة الاحتفال بها، فما يناسب الحزن؛ لا يليق بالفرح، والعكس صحيح، فهذه هي القاعدة المعتمدة في اختيار الكلمات، وكتابة القصائد والخطب، وكيفية أدائها، وتقديمها؛ بغرض التأثير على النفوس، ودفعها لممارسة سلوك معيَّن، وقد تعزَّز هذا الاتجاه، حين سمحت السلطة السياسية بالاحتفال، وشجعت على ممارسته، حيث انتشر، وتوزع على مساحات جغرافية واسعة، متداخلًا مع عادات الشعوب وتقاليدها.

احتفالات
ثمة سعي إلى التخفُّف من الأعباء، والالتزامات، لأن ذلك يُشعر بالراحة والسكينة، لذا حينما أُقرَّت الاحتفالات، وصُنَّفت المناسبات؛ جُعل نصيب الفرح أكبر من نصيب الحزن؛ تلبية لحاجة النفس إلى الراحة والسكينة، عقب التعب والمعاناة، فالدولة الفاطمية أثناء حكمها لمصر؛ وضعت تشريعاتٍ وقوانين تجيز الاحتفال بالمناسبات المختلفة على مدار العام، فلمَّا جاء الأيوبيون، وكانوا في حالة حرب مع الصليبيين؛ ألغوا الكثير من مظاهر الفرح، والاحتفال، لكن مع قدوم المماليك، واستقرار حكمهم؛ عادوا إلى الاحتفال بكثير من المناسبات.

انتشار الاحتفالات، ترافق مع انتشار الإسلام، وتوسُّع بلاد المسلمين؛ إذ انتقل إلى البلاد المختلفة، فامتزج بعادات وتقاليد أهلها، واستقرَّ ضمن نظامهم الاجتماعي، إلى أن أصبح دالًّا على هويتهم، وانتمائهم، فمن أشهر المناسبات الإسلامية، التي يتم الاحتفال بها: قدوم شهر رمضان، والاستعداد لموسم الحج، وإحياء ذكرى المولد النبوي.

لشهر رمضان مكانة خاصة في قلوب المسلمين، حيث يعملون على إحيائه بالابتهالات، والأدعية، والموشحات، والأذكار، والأناشيد، والأشعار، وهو ما يعني حضور الأدب ومشاركته بفاعليَّة في الاحتفالات، ولعل هذا الحضور؛ أحد أهم أسباب استحداث مصطلح “الأدب الإسلامي”؛ الدَّال على نوع معيَّن من الكتابة الموظَّفة لخدمة الإسلام والدعوة إليه.

قدوم شهر رمضان، والاحتفاء به، وكتابة الأشعار، وإلقائها في لياليه؛ تمثِّل إحدى أهم وأكبر الاحتفالات، بسبب امتلاكه رمزية عالية، ودلالة خاصة على الإسلام، ميَّزته عن غيره من الشرائع، فعلى الرغم من اختلاف الشعوب، وتنوع ثقافاتها وجذورها؛ فإنها اتَّفقت على ضرورة الاحتفال بقدومه، حيث عدته علامة دالة على الهوية والانتماء؛ كما هي شعوب مصر، وتونس، والمغرب، ودول الخليج، وباكستان، وأفغانستان، والهند، وماليزيا، وأندونيسيا، وأوزباكستان، وتركيا، وغيرها.

يوازي الاحتفالُ بقدوم شهر رمضان؛ الاحتفالَ بإقبال موسم الحج، ففيه تستعدُّ النفوس، وتتجهَّز؛ لتأكيد صلتها بالله سبحانه، عبر الرحيل إلى مكَّة، بمرافقة الأهازيج والابتهالات، والأناشيد، وأشعار الشوق واللهفة، وكان المصريون حتى عهد قريب مسؤولين عن تسيير وحماية قافلة “محمل الحج”؛ المشتملة على كسوة للكعبة، وثوب مطرز بالذهب، سترتديه قبل أداء المناسك، فالقافلة المنطلقة من القاهرة، بحراسة حاكمها وتحت وصايته، تزدحم بالمنشدين، والقراء، والشعراء، الذين تعلو أصواتهم بالترنم والابتهال، طوال مسيرهم إلى مكة.

ذكرى المولد النبوي؛ لا يقل أهمية عن قدوم شهر رمضان، وإقبال موسم الحج، حيث المسلمون اعتادوا على الاحتفال به؛ عبر توزيع الأطعمة، والحلويات، وإقامة مجالس الذكر، والابتهال، وكتابة الأشعار، وتأليف القصائد، وإلقائها، فيُعد مناسبة أساسيَّة في العديد من الدول الإسلامية، أو ذات الغالبية المسلمة، أو الدول المتسامحة مع شعائر وطقوس وأعياد الأقليات، إذ بعضها يمنح الموظف عطلة رسميَّة؛ كي يذهب ويشارك في إحياء المناسبة، والاحتفال بها مع العائلة والأصدقاء.

للمناسبة حضور مؤثِّر في حياة الناس، إذ تحفر في وجدانهم، وذاكرتهم، وتستقر بداخل وعيهم، ولا وعيهم، فتعمل على إعادة تشكيل أفكارهم، وتجهيزهم للمشاركة في احتفالاتها، إما بالمساعدة وتقديم العون، أو الكتابة والتأليف، أو الإنشاد والترجيع، أو بأي شكل آخر؛ ما يشير إلى أهميَّتها، ومركزيتها، وهو ما أدركته الهيئات الثقافية، فرصدت جوائز ضخمة للأدباء والكتاب المشاركين في مسابقاتها، حيث أدَّى استقطابهم إلى تكَوين نسَق ثقافي؛ ارتكز على الاحتفاء والاحتفال بالمناسبات، والمشاركة فيها، إلى أن بات طريقة حياة، وأسلوب عيش.



error: المحتوي محمي