أمي من فريق الأطرش (38)

تتزين الأبواب بالسعفات، وترش الوجوه بماء الورد، تتعالى الأصوات بهجة وانشراحًا وتتبارى الأنفاس جيئة وذهابًا، أجساد تتمايل بين أضواء الفوانيس، حناجر تشدو بأنغام الفرح (ناصفة وحلويات على النبي صلوات)، نجوب الأزقة والطرقات من بيت إلى بيت، بحثًا عن عطايا الأمهات، كفوف تتشابك وأخرى تفتح الأكياس، (أعطونا الله يعطيكم بيت مكة يوديكم)، تصدح النسوة بحنايا القلب (عايدين عليه كل سنة وسنة)، ليلة يباركها القمر، بدعوات لنا بطول العمر، طفولتنا تجمع البركات،(فول سوداني، قناطي، بيدان، حلويات)، نركض مسرعين إلى منازلنا لإفراغ الكيس الذي فاض عن آخره، ونعاود الانطلاق (للفرجان النائية).

سوالف شوق وحنين تأخذنا، بأطياب الأهل والجيران، إلى عصرية ليلة الناصفة تأتي (الجباية)، امرأة من نساء الحي تطوف على المنازل وعلى رأسها (زبيل أو صفرية) وفي يدها عصاة طويلة تطرق الأبواب، تعطي على قدر كرم أهل البيت (بلاليط، شيلة رز، أو طحين، أو بعض القروش)، امرأة تلتفح الرداء الأسود، تجبي ما طاب لها من الرزق بدون كلام، لا تفتح وجهها البتة، وتخفي يديها وتنتعل (بابوج) لكيلا تكشفها العيون، مهمة تتصدى لها نسوة معدودات، غرضهن ليس ذاتيًا، وإنما إنسانيًا، ما يجمعنه من أطعمة وريالات وقروش يقدمنه للأسر المحتاجة والفقيرة، وبكل لهفة يأخذن المقسوم من الأيادي المقتدرة، ويسلمنه للأيادي المعوزة، وبعضهن يقمن بطبخة معينة مكونة من طحين وسكر وبيض ليحصلن على (قرص عقيلي) يقمن بتوزيعه على صبية الفريق، براءتنا تفزع حينما نرى منظر (الجباية) واقفة في حوش الدار، كشبح أسود يثيرنا رعبًا، وخوفًا وهلعًا، نختبئ وراء الأمهات، بصراخ مقلق، يهدأ إيقاعه حينما تأتي إحدى نساء الحي حاملة طفلها الرضيع لـ(تشفيه) فرحًا من أنفاس المحسنات المصحوبات بـ(الصلوت، والزغاريد، والدعوة له بالأمنيات) وتعطي مقدار قبضة يد من (لكريكشون) عربون حب لصغيرها، حنان الأم يعرج بها على سبعة بيوتات، استجلابًا لبركة مقام هذه الليلة ليأخذ نصيبه باكرًا من فيض ميلادها المتجدد عامًا بعد عام.

ليلة تضيؤها الوجوه الطيبة من فتيات الحي وهن يرفلن بـ(المخنق) وأثوابهن تتلامع بـ(الزري)والألوان، ونساء الحي يتأنقن حسنًا وجمالًا، عيونهن مكحلة بالألق والمسرة، وشعر منسدل بالرياحين، تفوح منهن أطياب الرازقي ودهن العود، وتتبارق أكفهن بأساور الذهب وتتمازج نغماته مع (حبات لكريكشون) وهي تتساقط على بعضها في جوف الكيس، المصنوع من بقايا كيس الطحين أو كيس وسادة مستهلكة، والذي لا يملك أي كيس من الأولاد يرفع ذيل ملابسه إلى حدود ركبته ويرمى في حضن ثوبه، ويسبح الفول السوداني على محيط أرجله، كلما تحرك اندفاعًا نحو المنازل، بعض الأشقياء تتملكهم الغيرة فيسطون على أصحاب الأكياس الممتلئة، يخطفون تعب الغير ويولون الدبر في جنح الظلام. تلاحقهم اللعنات وزعيق الحسرات، نزق طفولي لا تخلو منه ليالي الناصفة، لكنه بالكاد يذكر وسط أفراح الجميع، ومن يفعل ذلك تلاحقه مخاوف الخطف في ليلة السابع والعشرين من رمضان، عقابًا لمن كانت يده خفيفة، سوف تسحبه (السحابة) من رجله وهو نائم وتعيده لمكان مولده أو تحوله إلى حجارة أو قطعة من ذهب، حكاية موروثة يلوح بها خيال الأمهات، لإخافتنا من عدم السهر مع انقضاء أيام الشهر، لينتظم نومنا مع حلول ليلة العيد، ومن كانت يده ماضية في الشقاوة يحسب نفسه هو المعني دون غيره.

إيه يا (ليلة الناصفة) نحسبك كرنفالًا حل في سماء ديرتنا، نراك فرحة كبرى تتعانق مع ضوء القمر في ليلة الخامس عشر، من شعبان ورمضان، ولا نمل من التطواف عبر الأزقة والدروب الضيقة و(الساباط)، نتفاخر بين الإخوة والأقارب والجيران من الذي جمع فينا أكثر، كل يكوم محصوله على شكل هرم، والفائز يأخذ شيئًا من عنده ويعطي لمن كان نصيبه أقل، نتلقى التبريكات وسط حفاوة الأمهات، بعد انتهاء ليلة لكريكشون، بعضنا يصحو باكرًا ليبحث ما تناثر من حبات الفول السوداني عند الأبواب، يلتقط الحبة التي نجت من دوس الأقدام، ينفث ما علق عليها من تراب، ثم
يدسها في جيبه.

صبية وبنات نقف عصرًا عند عتبات بيوت الله، في انتظار قدوم إحدى النسوة حاملة ولدها على كتفها، وما إن نرى امرأة تدلف إلى رحاب المسجد، إلا ونعقبها زفة من فرح، تضع ابنها عند المحراب وتنثر على رأسه (قفة من خوص) مليء بـ( القناطي والسكسبال وحلويات بيض الحمام ) يصدح الجميع بالصلوات على محمد وآل محمد، لكننا في حضرة المكان الطاهر نتأدب في التقاط المتناثر على حضن الطفل وتحت أرجله وخلفه، تنهض الأم ولدها المحملة له بالنذر، تيمنًا بحق صاحب هذا اليوم ليعينه مشيًا، وهي تردد أهازيج بركات ميلاد الإمام، يتخطى الطفل بأقدام خجلى والكل يهتف له (تاتيه.. تاتيه.. ) أعطوا لمچسح شيئًا، حتى يقوم يمشي، مشى مشى في الوديان محروس بعين الله التي لتنام.. .إلى مشى بالحوش يدوي، خلاخيله ذهب والخوگ ملوي، وإلى مشى بالحوش سوى دغبره، راسه الخوصي سايح لورا … تاتيه .تاتيه مشى مشى ..الحلو .الله يعينه..) عيون الطفل المكحلة وقحفيته المزركشة تناغيه أكف الصغار ونبض القلوب مع (الشيلات والسفقات) يتخطى خطواته الأولى، غدًا سيكبر ويأخذ الدور عنا، سيردح في ليالي الناصفة كما ردح الذين من قبلنا، تقليد سنوي متوارث جيلًا بعد جيل، وكل جيل له حكاياته العذبة، كنا صغارًا نتشارك البهجة ونتقاسم الفرح.

شكوت لوالدتي عن الأشقياء الذين يسرقون
أكياسنا، قهقهة.. وأخبرتني عن ليالي الناصفة زمن طفولتها، عن أيام منازل فريق الأطرش
المخبأة تحت غابات النخيل، حيث تخرج هي برفقة أخواتها وبنات خالها وحدودهن حيز الفريق، لكن خالتي “زليخة” أصرت ذات ناصفة وهي بعمر السبع سنوات أن تذهب إلى”الخارجية” وخالها يقول لها “لا تروحي يا بنتي ويش ايوديش مكان بعيد عليش”، ردت عليها “باروح يا خالي وباجي بسرعة” جرت منطلقة جنوبًا لتلحق ببعض الفتيات، وعورة الدرب أسقطها أرضًا فتدحرجت مثل كرة لا تلوي على شيء، جرحت أيديها وركبها وخدوش على خدها، الفرحة والحماس بجمع الناصفة من كل بيت أنساها ألمها، وبينما هي عائدة من الخارجية متهلهلة مبتهجة سرق منها الفرح، امتدت يد وسطت على كيسها الممتلئ عن آخره، رجعت تبكي بحسرتها يتبعها ظلها، طول الدرب وهي تمسح دموها برداء “مخنگها”، قمر ليلة 14 يشع بأنواره شاهد على براءة يتيمة تسير وحدها تندب حظها، استقبلتها أمها وكفكفت دموعها.

جاء ضحى اليوم التالي كما العادة مع كل ناصفة تأتي و”ليدات” زوجة عمها أم أحمد، -والدة الشيخ غالب حماد- معلمة القرآن المشهورة في حي الديرة الأثري، صبايا في عمر الورد يحملن “گفة” كبيرة مشكلة من السكسبال والحلويات والگناطي والبيدان والنگال والجوز، وأبو رميت -طعمه حامض- ومخاد العروس “، يد تتبارك بتنويعات ما طاب لهن من الحلويات، تقول والدتي: “الأول بيوت فريق الأطرش أغلبهم فقراء، ما يقسموا إلا السكسبال بس أهل الديرة بخير ونعمة يقسموا مشكل ومرة عمي عندها وليدات واجد كلهم يجيبوا ليها من ناصفتهم وتصير عندها شحنات وينتابنا منه الكفير، إذا شفنا ديك الگفة المتروسة كأنا شايفين المنى والسلوى، نأكل لزين نشبع “.

يا حلاة الفرح في دروب البساتين، ويا عطر المولد بأنفاس المحبين، تأتي سنين ويتجدد الفرح كل عام أشكال وألوان.

جزء من هذا الموروث صعده مسرحيًا شاب في مقتبل العمر، إنسان تحسس مواطن جمال الفلكلور وعبق الماضي والحكايا الشعبية، إنه الأستاذ
/ عبدالله حسن منصور آل عبدالمحسن، وكأنه على موعد مع القدر بمسرات لما هو آت، فقد جمع ثلة من الأطفال في حفل نادي الهدى المنوع وقدمهم ليحاكوا تمثيلًا (ليلة الكريكشون) سنة 1396هجرية الموافق 76ميلادية، وكان نصيب كاتب هذه السطور فرحة كبرى حينما كلف بعمل الديكور (خلفية) للمسرحية وهي عبارة عن رسمة لبيوت الطين مستوحاة من منازل الديرة، فأخد المشهد حضورًا في عين المتفرج، هذه المسرحية عرضت في أكثر من مسرح (تاروت، أرامكو، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، رعايةالشباب بالرياض)، وكانت محط إعجاب الجميع أينما ارتحلت وحلت، فمن خلالها تلقى من أسهم فيها شهادات الشكر والتقدير، وكان فارسها (عبدالله العبد المحسن)الذي عُد عن جدارة واستحقاق مؤسس مسرح الطفل ليس على مستوى المملكة بل على مستوى الخليج من خلال مسرحية (ليلة لكريكشون)، فألف تحية لمكانة هذه الليلة المباركة التي تباركت عليه فنيًا وإبداعيًا، أعادها الله علينا وعليكم بالخير واليمن والبركات.
(ناصفة وحلويات على النبي صلوات.. أعطونا نخج وزبيب حتى تزور الحبيب.. وأعطونا الحلويات وعلى النبي صلوات).

تحية معطرة بأنفاس ليلة الناصفة لوالدتي وزوجتي اللتين زودتاني بجميل الذكريات.



error: المحتوي محمي