يميل الكثير لرؤية ما يحمل عبق التراث لحنينه لزمن الطيبين وتعليم الجيل الجديد ما كان يوجد في “البيت العود” قديمًا من أدوات تستخدم كأثاث ووسائل للشرب والأكل وغيرها، فيكاد لا يخلو مهرجان من نسمة من تراث الأجداد حتى لو لامستها نفحات وإضافات حديثة.
لكن الحرفيّ في التراثيات فاضل عبد الله الجبيلي والمشارك في مهرجان “حرفيون 2” بحديقة الناصرة، والذي يعمل بإحدى الشركات كفني تكييف، قد قرر المحافظة على هذه التراثيات دون إضافات؛ ليحيي بها تراث أبيه الذي كان سببًا في استمراره في عمل التراثيات تخليدًا لذكرى روحه، ليراه أبناء اليوم والجيل الجديد، ويشاهدوا التراثيات المختلفة من الأبواب، والنوافذ، والصناديق، والحب، والزير، وغيرها بما تحوي من طرز قديمة.
وأثارت تراثياته المميّزة إعجاب زوار مهرجان “حرفيون 2” وجذبتهم لها، حيث ركّز المهرجان الذي يختتم يوم الثلاثاء 13 رمضان 1444هـ على إبراز حرفيي القطيف ومنتجاتهم التراثية، والذي أقيم بتنظيم من مكتب الضمان الاجتماعي بمحافظة القطيف، وبالشراكة مع بلدية المحافظة وجمعية التنمية الأهلية بالمحافظة على مدى عشرة أيام بدأت من 4 رمضان 1444هـ.
أعمال متعددة
قد تخوض بك الحياة عدة تجارب تجعلك تقرر قرارك الأخير الذي يميل له قلبك، وهذا بالفعل ما حدث للجبيلي، الذي ذكر أنه يحاول العمل بكل شيء يحوي الفن لكونه رسامًا، فأول مشروع بدأ به كان عمل كوشات الزواج.
وبدأت فكرة أول مشروعاته عندما طلبت منه شقيقته تصميم كوشة لها منذ أكثر من 20 عامًا، فوق سطح منزلهما حيث كانت أماكن إقامة حفلات الزواج سابقًا، فكانت أول كوشة يصممها في حياته من نصيبها.
ويسترجع “الجبيلي” ذكرياته قائلًا: “عملت رسامًا بمكتبة العبيدان، ومكتبة أخرى بالقديح، ولكن لقلة الدخل لم أستمر، إضافة لعملي بمهن أخرى، مثل العمل على سيارة مثلجات، وآيس كريم لمدة 13 سنة”، مضيفًا: “عندما أصبحت الحالة تحتاج دخلًا ماديًا فكرت بمشروع الكوشات، واشتركت فيه مع أحد الإخوان حيث كان فنانًا واستمررتُ لمدة 10 سنوات فقط” بعدها وجد فاضل ضالته في الاهتمام بالتراثيات.
تحويل الرسم لواقع
كانت محبته للأشياء القديمة تلهمه رسمها؛ فكان يرسم قلعة تاروت، ويرسم الأبواب، والنوافذ القديمة إلى أن طرأ بذهنه تساؤل؛ لماذا لا أحوّل الرسم على الورق إلى واقع؟
ويذكر الجبيلي أنه بدأ العمل بمزرعته للتسلية، ولم تكن نيّته في الأساس إنشاء هذا المشروع لكنه كان يسترجع به ذكرياته مع والده المتوفى الذي تعلق به كثيرًا، وتألم لفقدانه، وعندما رأى أحد الأشخاص أعماله أشاد بها، وشجّعه على الدخول إلى هذا المجال، لتبدأ الفكرة في رأسه، وتقرر يده الإمساك بمنشاره، وتنفيذها، حتى أصبح عمرها اليوم ثماني سنوات.
تراثيات دون تغيير
قد يجد الكثير أن بعض الإضافات على الأشياء القديمة تمزج بين الحاضر، والماضي، ولكن الجبيلي يجد أن ذلك فيه تغيير للتراث؛ لهذا فهو يعمل التراثيات كما هي بالسابق بالضبط ولا يعمل غيرها.
ونوه بأنه ربما يكون أكثر حرفي يعمل في التراثيات، معقبًا: “أعمل في الأبواب القديمة، والنوافذ، أو الدرايش، والربابة، والحباب، والزير، أو الشربات، والصناديق الكبيرة المبيتة، والصناديق العادية، والقواري، والربابة والأسلحة”، وكانت آخر أعماله هو بيت قديم اتضح فيه بعض الأخطاء والتي سيعمل على تفاديها مستقبلًا؛ ليكون البيت طبق الأصل من البيوت الحقيقية.
وأشار إلى حبه للأسلحة القديمة؛ فهو لا ينظر للأسلحة الجديدة لهذا صنع منها بالخشب الشزون والساكتون، والبندقية البدوية، والتي غالبًا تستخدم بالمسلسلات البدوية وصنع أيضًا المقمع الذي يعتبر أصعب سلاح بالتصميم والصناعة.
خشب ذو عروق
حين تعمل عملًا تحبه يغدو كالصديق المرافق لك؛ فهو يجلب لك المتعة، والراحة، وهذا بالفعل ما وجده “الجبيلي” بعمله بالتراثيات حيث يصفه بأنه عمل ممتع، ويريح القلب، حتى إنه في اختياره لأنواع الأخشاب التي يشكل منها أعماله يحب العمل بالخشب الأبيض المعروف بالخشب السويدي لما فيه من مميزات، مثل؛ سهولة تنظيفه جيدًا، وصباغته، وتلوين عروقه، معلقًا: “كأنه قد دبت فيه الحياة ببروز عروقه”.
مشاركته في عدة مهرجانات
ذكر أنه شارك بعدة مهرجانات إضافة لمشاركته الحالية بمهرجان “حرفيون 2” فقد شارك في مهرجان “البراحة 2 و3″، ومهرجان المشاري، ومهرجان تابع للبلدية بالمجيدية، متوجهًا بالشكر للبلدية التي تكفلت بنقل أغراضه يومها لعدم توفر سيارة لديه.
وأكد أن الرزق إذا أتى فهو يأتي دون سؤال، معلقًا بأن أول زبون ابتاع له جاء من الأحساء، وثاني زبون بعد شهر من الأول، وكان من البحرين.
وراثة تراث
ويذكر الجبيلي أن عدوى حب الرسم أو المطرقة منتشرة بمنزلهم، حتى إن نجله علي ذو الثلاث سنوات أصبحت المطرقة محبوبته، ويبكي من أجلها ولا يرضى إلا بمطرقة حقيقية، أما ولدَيه عباس وعبد الله؛ فيجد فيهما الرغبة للعمل معه، ومساعدته خاصة في قص الأخشاب بالمنشار، والعمل عليها.
وأشار إلى أن البيئة تجعل الأطفال يميلون أكثر للتراث، مستطردًا: “هناك من وصل لعمر 25 أو 30 وهو يتساءل ما هذا الشيء؟ هل هو باب أم نافذة أو يشير له على أنه نافذة، وهو باب أو العكس؛ لأنه لم يتعود على رؤية التراث، فلا يعرف البعض ما هو الحِب والشربة مثلًا والتي يفترض أن يعرفها أي أحد”.
ولعل نشأته في بيئة النخيل، ومن بعده أولاده وأولاد أشقائه ساهم في معرفتهم بالألعاب التراثية، مثل “الخطة والطنقور”، وعن ذلك يقول: “أولادي عاشوا بالنخيل، ويعرفون كل الأشياء التراثية، وحين يرونني أعمل شيئًا تراثيًا يعجبهم يحبون صنعه”.
وفي ختام حديثه، وجه “الجبيلي” الذي بدأ العقد الخامس من عمره، كلمة لجيل الشباب، ناصحًا إياهم بلهجته القديحية: “ما دام الواحد عنده صحة وقلب ينبض وفيه إرادة فالعمر لا يعطي معنى، ما فائدة شباب وصغير ودائمًا نائم ومتعور جسمه من النوم ومرافق لجواله؟”، وأردف بأنه لا يهوى الجلوس الطويل أمام الهاتف الجوال؛ فهو يهوى الذهاب لمزرعته ليتأمل فيها لعل فكرة تأتي لرأسه، ويعمل منها شيئًا مفيدًا.