فضفضة أربعيني

يومياً أتعامل مع ما بين 100 و300 وافدٍ أجنبي يعمل في المملكة.. منهم من قضى عقوداً من الزمن واعتاد الغربة واعتاد معيشة مجتمع متحاب وودود كمجتمع الجبيل.. ومنهم من أقلته طائرة الغربة وأوصلته الجبيل البارحة.

أتعجب وأبهر كثيراً بالكفاءات التي أواجهها من دول العمالة والتي اختارت العمل في المملكة.. خاصة الشباب منهم.

ملاحظة قبل أن أكمل: أول شيءٍ يحتاجه الوافد للعمل في الجبيل هو شريحة مكالمات أو شريحة إنترنت لذا فإن شريحة كبيرة منهم أول شخص يتعامل معه هو “محسوبكم”.

نعود لموضوعنا..

هؤلاء الطاقات الشابة القادمة للعمل.. حالها حال جميع البشر على وجه البسيطة.. لديه أم مشتاقة له.. لديه أب يخاف عليه.. لديه أحلام يود تحقيقها.. لديه أحكام مسبقة سلبية أو إيجابية عن مجتمع هو قادم ليعيش ويعمل فيه ليبني مستقبله.

لو تسألني عند هذي النقطة انا ماذا كتبت فوق يشهد الله ما لا أعلم.. فقد تركت لنفسي العنان.

المهم ..

حدث اليوم موقف.. (فرمت) مخي.. جعلني أعيد حساباتي وأمتن لعامل هندي قادم للعمل من بلد اسمها يوبي علمني درساً من دروس الحياة.

هذا العامل دخل المكتب.. ولدينا نظام انتظار متطور جداً في مكاتب المبيعات .. يعرف الشخص هويته على النظام والنظام يقوم بإعطاء الأولوية آلياً لأعضاء التميز.. ومن ثم العملاء العاديين.. وحتى يقوم بذلك لابد أن تدخل رقم جوال باسمك أو رقم هويتك.. والنظام يقوم بالبقية.

هذا الوافد دخل.. للتو أصدرت له إقامة.. لم يعرف كيف يحصل على رقم انتظار.. لا يعرف العربية.. ولا يعرف الإنجليزية.. وأنا صوتي (لعنة الله على صوتي)..صوتي جهوري .. باعتقادي ولكونه كبير في السن.. بأنه قديم في الجبيل.. فأخذت اخبره بالطريقة من بعد أمتار وهو لا يفهم ما أقول.

المهم ساعده عامل المكتب وأخذ رقم انتظار.. جلس حتى أتى دوره.. وإذا هو عامل جديد.. يكبرني عمراً بيوم واحد فقط.

هو مولود في يوم 3 مارس 1974 م، وأنا مولود في 4 مارس 1974م.

المسكين كان “متخوبل” كما نقول بالعامية.. وصل لتوه المملكة منذ فترة بسيطة.. وللتو أيضاً أُصدِرت له إقامة.. بالأمس جاء وأخذ له شريحة مكالمات في المساء ولم يعرف كيف يفعلها.. مماتسبب في إتلاف الرقم السري للشريحة.. والجوال يطلب PUK.. والرجل بسيط ويعتقد أنه واقع في مشكلة كبيرة ..

لدي عامل هندي ربيته على يدي في المكتب.. وهو الآن مترجمي..

حللنا مشكلته.. وتلفونه يعمل.. فعلنا له الشريحة.. سلم علي بحرارة شديدة وأخذ يشكرني وهو يهز يدي بقوة كعلامة امتنان..

اتصل بأهله في الهند.. لحظات إلا وهو منهار ويبكي بكاءً يقطع القلب.. أنا دمعت عيني عليه..

أنهى مكالمته .. أجلسته على كرسي وقلت للعامل أن يضيفه كوب شاي وماء ليهدأ.

وإذا به يقول لي أنه جاء في هذا العمر ودفع دم قلبه قيمة التأشيرة ليعمل في السعودية لابنه الذي تظهر صورته على شاشة جواله (فلقة قمر الله يحفظه ويبلغه فيه) .. يقول جاء السعودية متغرباً.. ليدرس ابنه في الجامعة.. وهو مخطط ما أن يتخرج ابنه فإنه سيرجع الهند نهائياً.. وهو راتب أول شهر لم يستلمه.. وهو يبكي لأن ابنه نجح في اختبار في مادة كان خائفاً منها..

هنا اختلطت مشاعري.. ليت الأبناء يعلمون ما يشعر الآباء تجاه مستقبل أبنائهم..

كل طاقة.. كل كفاءة.. كل شخص وافد يحمل شهادة جاء للعمل هنا.. كان لديه أب مثل هذا الأب.. يُقَطع من لحمه حتى ينال ابنه الشهادة.. شهادة رويت بتعب وكد وشقاء.. فكان نتيجتها هؤلاءالشباب.. الجيل الجديد من العمالة الوافدة..

حينما أسمع أن أكثر الطلاب والطالبات هذا العام في مصر والبحرين والإمارات وكثير من البلدان الأخرى هم من القطيف، لا لأنهم لم يقبلوا في جامعات المملكة بل لبحثهم عن التخصصات الواعدة.. أعلم وتعلم كم من عائلة تحمل هم مستقبل أبنائها.

هذه فقط مجرد فضفضة.. فقد غيرهذا الرجل مزاج يومي.

كم هو صعب جداً لعب دور الأب في هذه الحياة.


error: المحتوي محمي