لأنك إنسان «3»

حين تنظر نظرة على ما يجري بالعالم والعلاقات التي فيه ستلقى تحولًا غريبًا عن مسار الفطرة وغرائزها التي يولد الإنسان فيها، وبغض النظر عن الديانة لكن هناك إعدادات من الخالق أودعها فينا كطبيعة لدينا لا يتميّز فيها شرقي عن غربي ولا أبيض عن أسود إلا إذا لعبنا فيها وأفسدنا في الإعدادات الخاصة فيها فمالت عن الوضع الطبيعي.

فهناك غرائز طبيعية توجد لدينا وسميت بالغرائز لأنها صفات “مغروزة” بشدة في الإنسان، ولذلك هي جزء من طبيعته وبنائه.

لن أستطيع الحديث وتناول جميع الغرائز ولكن سأحاول التعرض لبعضها، وأول ما أتناول هو غريزة الأمومة التي تبدأ بالتحرك مع أول حركة للجنين في الأحشاء، وهناك علاقة عجيبة من الترابط تنفتح بأول ما يفتح المولود عينه على الدنيا ويستشعر دفء حضن أمه، فغريزة الأمومة هي مزيج من مشاعر “الحب، الاهتمام، القلق، الخوف، التضحية”. فالأم تجعل أطفالها أهم أولوياتها، فتسهر وتتحمل الصعاب والتعب ولا تنتظر مكافأة على ما تقوم به.

الأمومة التي تجوع حتى يشبع وليدها، وتكتفي بالرث من الثياب ليلبس وليدها الجديد، ولا بأس إن عاشت الضيق في سبيل رسم بسمة على محيا طفلها.

هي مصدر الاحتواء الذي يحتوي كل الهموم والأحزان والأفراح والأسرار لأبنائها.

قد أعجز عن كتابة نقطة أمام ما تعمله غريزة الأمومة لدى عالم الأمهات والتي تجعل الجنة مباحة تحت أقدامهن.

بالأمس فقط وقع بين يدي مقطع لفتاة في عمر الثامنة حافظة للقرآن الكريم كانت واقفة أمام لجنة تحكيم وكانوا يسألون عن والديها بعد نهاية تقييمها، فذكر المقدم أن الأم موجودة بين الحضور، وعاد أحد المحكمين وسأل عن والدها فصمتت الفتاة برهة ثم نطقت بأن والدها شهيد مفقود الأثر منذ أن كانت بعمر السنة وعدة أشهر، بالطبع كان جوابها موقف مؤثر أثّر على قلوب المحكمين والحضور بالبكاء ولكنها كانت أكثر سكينة وأمها تقف خلفها.

أقول حتمًا بأن نورانية أبيها الشهيد كانت تحف حياتها التي غاب عنها منذ نعومة أظفارها، ولكن ذهني ظل يسأل أي توفيق نالته أمها حين رعت يتيمة دون أب لتستطيع تحفيظها القرآن كاملاً بعمر الثامنة.

أم مثلها تنقلك للجنة وطريق احتضانها منذ الصغر الله فقط هو من يعرف جزاءها.

للأسف غريزة الأمومة باتت لدى البعض باهتة في غزارتها وأكبر اهتمامها هو كيف ستظهر طفلتي أو يظهر طفلي بأبهى حلة في الناصفة مثلًا، فتراها تنتقل من محل لمحل لتختار زيًّا يميّزه ويحوز على “لايكات” الإعجاب في صور الأطفال.

نعم قد تهتم بتعليمه بالمدارس الخاصة وتتكلف في تعليمه أغلب الفنون، لكنها أبعد عن تعليمه أساسيات الدين وأهمها تعليم الصلاة والمحافظة عليها، أو الاهتمام بالحجاب وكلاهما فرض واجب.

ترى البعض ينفق مبالغ باهظة لأمور ثانوية وحين يأتي الدور لتعليم الصلاة أو القرآن فهنا العذر يأتي بعدم وجود الوقت أو أن رسوم الاشتراك لم تعجبهم.

لا أعلم إن كنا نستوعب هذا المثل “النقش في الصغر كالنقش على الحجر” وبالطبع إذا رسمنا الخارطة من البداية سليمة فلن نتعب في إكمالها معهم لأنهم سيكونون قد اعتمدوا على أنفسهم بعدها وسنكون فقط من المتفرجين الفرحين.

شهر رمضان كلنا يعرف أنه شهر القرآن وبغض النظر عن ما يتم حفظه من السور في المدارس ولكنه ليس كافيًا لأنه يؤدى بصورة الواجب الثقيل، لا الشيء المحبوب للقلب، فحين يشارك فتى أو فتاة في مسابقة في الحفظ مثلًا هو يرسم تحديًا للإتقان وتعلم الصورة الصحيحة والابتعاد عن الأخطاء، وربما توّلد لديه شغف بالمشاركة بالمزيد وحفظ الكثير.

أظن أنني لا أستطيع التفريق بين من تترك أبناءها فريسة بالشارع وتتخلى عنهم في حال الطلاق أو الزواج بآخر، وبين من تترك أبناءها فريسة لكل ما يُعرض في أجهزتهم، وكل ما يباع ليدخل أجسامهم لتتغير بها إعدادات براءتهم وطبيعتهم دون أن يصدر منها أي دفاع وحماية.

فمن الفطرة أن تدافع الأم عن أولادها بشراسة عند كل من يمس أبناءها بسوء وتأخذ بحقهم، وقد نرى هذا موجودًا حتى في عالم الحيوان مهما كانت هناك بعض الاستثناءات لبعضها، لكن تبقى عاطفة الأم غزيرة في تدفقها ويُضرب بها المثل لوصف أي عاطفة حنونة مهما كانت طريقة تعبيرها.

ونحن في أيامك يا شهر الله حتى مع ظل حمايتك لنا من اقتراب الشيطان وعزله عنا، لكن شيطان أنفسنا وشروره مازلنا نحتاج أن نلوذ بعباءة أمّنا الزهراء (ع) التي هي أمنا التي لا نشك أنملة عن حمايتها لنا ولطافة رعايتها لنا مهما كبرنا، لتحمينا من أنفسنا الأمارة ونستطيع الخروج منك سالمين بطبيعتنا كما ولدتنا أمهاتنا.

فبيومك التاسع يا شهري المحبوب تحمّلني أن عدت لسؤالك هل أنا في سُفرة من الحماية فيك أم في سَفرة عنها؟



error: المحتوي محمي