لأنك إنسان «2»

حين تسأل أحدهم: ما الشيء الذي يميز بني الإنسان؟ سيرد سريعًا: إنه يمتاز عن -أجل الله السامع والقارئ- الحيوان بالعقل الذي يُعرفه الصواب من الخطأ.

العقل ذاك الجوهرة الثمينة التي نملكها ويجعلنا نفكر قبل أن ننطق، ونتأمل حين ننظر، ونتخيل حين نسمع، ونبتكر حين نحلل، ونبدع حين نتطور، ونخترع حين نحتاج، ونفرح حين ننجز، ونحزن عند أي خسارة وغيرها من الأحاسيس التي نستشعرها.

وبالطبع العقل لا نقصد به فقط عضو الدماغ لأنه موجود في تكوين كل الحيوانات، ولكن ما يميزنا هو ما يقوم به دماغنا من وظائف عليا وأنشطة تمثل الذكاء والذاكرة والوعي والإدراك وغيرها.

ومع كل هذا نحن لا نستخدم سوى 10 ‎%‎ من الطاقة الجبارة لعقولنا، قد ننبهر أحيانًا من شخص هو من عمرنا لكن إنجازه في الحياة صعد به لعمر أكبر بدون أن تظهر عليه علامات الكبر.

لكن عقله أهداه حكمة الكبار الذين كانوا يحسنون استخدام عقولهم وتركيز كل أوقاتهم في تنمية ذواتهم وملء صناديق أعمارهم بما يفيد دنياهم وآخرتهم.

فلنعترف أننا لا نجيد استخدام عقولنا، وأبسط أمر أستطيع ضرب المثل فيه خاصة في هذا الشهر المبارك الذي جاء لنا لنعمل تطهيرًا وتصفية جسدية ونفسية وروحية لذواتنا، ولكن نحن ماذا نصنع فيه؟

العقل يوجهنا لاستغلال موسم التطهير الشامل والابتعاد عن مختلف السموم التي كنا نتلقاها وتتعرض لها أجسادنا وأرواحنا وتجعلها قريبة لدرب التهلكة، سواء تلك التي عن طريق الفم والتي نقوم بأكلها وتقوم هي بدورها بتعطيل نظام الحماية بسمومها في أجسادنا، أو التي كنا ننظر لها فتحجب عنا رؤية النور الذي تستطيع أرواحنا التحليق فيه، أو تلك التي كنا نستمع لها ولا نعلم أنها بسمومها تنخر في أسماعنا فلا نستمع حتى صوت الحق حين ينادي، إضافة للسموم التي تدخل حتى عبر أنفاسنا بإرداتنا رغم كل التحذيرات لكننا نحجب عقولنا عن إدراك حقيقة رمي النفس للتهلكة وتعريضها لخطر المرض!

يروقني منظر ومسمع من يستغل هذا الشهر ليؤدي نظامًا غذائيًا أو رياضيًا يكافئ به جسمه الذي انتهكت سلامته عبر شهور أو ربما لسنين عديدة وحان وقت إراحته وترضيته والجبر بخاطره كي لا يشكونا في الغد.

ليس مزاحًا ما أقول وليس بداعي تقريب الفكرة، لأننا حقًا في الغد ستنطق أعضاؤنا بما كنا نفعل بها، سينطق العقل الذي بح صوته حين أرسل إشاراته العصبية بالتوقف عن الطعام لأنه سيضرنا لكننا كسرنا كلمته واستمررنا في عناده وتناول ما يضر بشكل زائد إلى أن نصل لمرحلة لا يفيد فيها الندم حين تتعطل مهمة جهاز في أعضائنا.

نحن في أعمالنا ووظائفنا العادية حين يتم تسليمنا جهاز نوقع على تسلم عهدته والمحافظة عليه، ولكن الله أعطانا أعضاء سليمة برحمته لا نستطيع شراء مثلها فهل نسلم عهدتها وهي متعطلة أو مجروحة بإهمالنا؟!.

عقولنا التي لا تنام بنومنا، لِم لا نكرمها بالاحترام، لماذا نغيبها ونحفر قبر الاستغناء عنها وهي لا تزال باذلة وقادرة على إعطائنا ما نريد.

كلمة لا زالت في ذهني وأشعر بالغبن فيها وربما تحتاج إسهابًا أكثر، وهي أن عقولنا في خطر حيث إنها لا توظف في التعليم الذي همه النجاح لا هم الحصول على العلم في ذاته والاستفادة منه، ربما يكون حكمي قاصرًا ويحكم على آخر تجربة لي في التعليم الخاص، ولكن أجد الكثير يعتمد على تهميش العقل والتفكير حين يعتمد على ورقة مراجعة مثلًا يحفظها بدون تفكير حتى في طريقة منطقية للحل.

حين تعطيني أسئلة سهلة في رأيي هذه ليست خدمة وربما يخالفني الكثير، لأني أحب الصعب الذي يستثير عقلي للتفكير وإيجاد الحل الصحيح وحتى لو أخطأت فأنا أكسبت عقلي درجة أرفع في مستوى التفكير والذكاء.

مع الأسف أصبحت حياتنا تعتمد على النماذج الجاهزة التي تدع عقولنا في راحة عن العمل لتفجير طاقة رائعة أودعها الله في عقولنا، فقط علينا تحدي عقولنا وإعطاؤها فرصة وأجزم أننا الرابحون في كل الأحوال.

ربما الحديث عن العقل شيء لا أستطيع الوفاء بحق الإمام فيه بمقالة واحدة، وهناك روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة في شأنه ولكن سأكتفي بمقولتين الأولى لرسول الرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول فيها: “قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له”ورواية لحفيده الصادق (ع) قال فيها :”إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله”.

وفي ختامي سأختم بأمير العقل والذي مثّل عقل الإنسان بأبهى صورته بعلمه وزهده وتقواه وحله لأي مشكلة ومعضلة رغم قلة ما يأكل حتى قيل له: “لا أبقاني الله لمعضلة لست لها يا أبا الحسن”.

فيا شهر الله الذي يمشي سريعًا في خُطاه وفي يومك الثامن الذي كان أول يوم لوحشة العظيم أبي طالب (ع) على قلب أميرنا ووالدنا علي (ع) وقبل أن نصل لليالي فقده المفجعة التي اختارت إصابة ما به عقله، أنلنا شيئًا من عقله لنمضي أيامك ولياليك بحكمة تحمل رائحة إنسان علي وجماله، لأعود وأسألك منها، هل أنا في سُفرة من حكمة العقل، أم في سَفرة فيها؟.



error: المحتوي محمي