كيمياء الحياة -9-

من المتحكم

جاءنا شهر الكرم والضيافة وجاء بخيراته الروحية والنفسية والبدنية والاجتماعية والأخلاقية، رحمة الله في هذا الشهر في كل شيء وربما يتساءل الإنسان هل هي في كل شيء، وهل يستطيع أن يجعل مسلكه في هذا الشهر صالحًا متوازيًا مع رحمة الله؟

تسآؤل فيه بعض العمق، فالتركيبة النفسية للإنسان كما ذكرنا هي خليط من ما جاءه من آبائه وأمهاته من الوراثة والتراكيب المادة من الأكل والشرب لوالدية وأيضًا البيئة والمنشأ والتربية ولا ننسى الروح وما تحمل من صفات وشياطين الإنس والجن، وهذا تقريبًا ما يشكّل عوامل الدافعية للإنسان في أعماله، فهو حين يرغب بأداء عمل فإن ذلك يبدأ بفكرة تزرع أو هي مزروعة من قبل فيه وهذه الفكرة تأتي بالحواس (العين والأذن والأنف والفم والجلد أي اللمس) معطية معنىً معينًا له، ومقر الزراعة هو العقل فهو إمام الأفكار بناء على الرواية المروية في هذا الموضوع والذي يقوم بالتحليل المبدئي للفكرة بناء على العوامل أعلاه وتكرار الزراعة أي بالتلقي المتكرر لها أو بإعادة التفكير بها يرسّخها بشكل أكبر مما ينقلها إلى القلب والذي يكون المتحكم به هي الأفكار التي هي أئمة القلوب كما بالرواية فالأفكار الحسنة تجلي القلوب والأفكار السيئة تجعل الرين عليها وجلاؤها يجعلها طيبة وليّنه ورحيمة وأما الرين فيجعلها خبية وقاسية غليظة ويكون اتجاه القلب إما الرغبات الصالحة أو الرغبات الفاسدة والتي تنتقل إلى الحواس وإما ترجع لاستقبال الأفكار للرغبة فيها سواء لحسن الفكرة للعقل والقلب أو للهوى وطلب اللذة أو لتركها لعدم تقبلها أو لما ينتج منها من ألم وحزن وغيرها، وهنا تنتقل إلى الأعضاء التي تقوم بأداء العمل من اليدين والرجلين والعينين والأذنين والأنف والفم مجتمعةً أو متفرقة.

وبعد هذه المقدمة التقريبية للدافعية والتي تمثل جزءًا من النظريات والمرويات عنها وعن شرحها وتوضيحها نرجع للشهر الكريم وما يحصل به.

القرآن وقراءته
القرآن ربيع القلوب وهذه الفكرة تكون في العقل ولكون الشياطين مغلّة أيديهم في الشهر الكريم فإن العقل يستريح من أشد عدو يتربص به ويمنعه عن قراءة القرآن ويبقى ما ورثه من الآباء والأمهات من كون شهر رمضان هو موسم القرآن وشهر نزوله وفيوضاته وبركاته وهنا الدافع الثاني للمبادرة بالقراءة أو عدم الإيمان بذلك مما يجعله يتركه، وبعد ذلك المنشأ والبيئة التي تساعد على القراءة أو عدمها، فبيئة الأجواء العبادية وسماع القرآن يصدح في البيوت والمساجد وغيرها تشكل دافعًا قويًا لقراءة القرآن أما أجواء المتع الدنيوية والأهواء فإنها تحرم صاحبها من ذلك، وننتقل إلى الروح التي إما أن يكون رضا الله والرغبة بالتقرب له هو الذي يجعله يبادر للقراءة وتدبُّر القرآن أو الأنا والتي تجعله ينظر لتلبية أهوائه ورغباته الذاتية أولًا وبالتالي إن كانت أهواؤه رغبات إيجابية بالحصول على اللذة بهذا الطريق فإنه سيقرأ ويستمع للقرآن وإلا سيتركه، وأخيرًا أثر المأكول والمشروب والذي يثبّت العقل أو يلغيه ويجعل المتحكم بعد ذلك القلب، فتخرج الفكرة من العقل بالقبول بها والدفع لعملها أو برفضها والامتناع عنها وتنتقل للقلب الذي بصفائه ونورانيته سيقبل الفكرة والمبادرة للقراءة والتدبر حيث إنها تحييه وتطيبه أو لن يقبلها لتأثره برأي العقل وإن كان هو صافًا ونقيًا، وفي الحالة الثانية فإن الرين والسواد سيتوافق مع رفض الفكرة ولن يبادر بالقراءة، وأما إذا جاءت من العقل بالقبول فإنه وإن كان أسود سيحيا بالمبادرة وإن كانت على استحياء وقله وهذا أول الغيث من الرحمات لهذا القلب.

ثم تنتقل إلى الحواس التي بالقبول تأنس بالقراءة والاستماع والتدبر أو ترفضه وتتفاداه وتبعد عنه وتحرم نفسها منه، وأخيرًا فإن الأعضاء أما تبادر بالسعي بالرجلين والأخذ باليدين وتقليب الصفحات بها والنظر للقراءة بالعينين وتحريك اللسان للهج به والاستماع بالأذنين ولمس صفحاته بالجلد وشم روائح عبير الأوراق مما يرسّخ هذه الفكرة والعمل في العقل والذي بدورة يبادر ويعود إليه ثم القلب الذي ينقى ويصفى ثم الحواس وهكذا دواليك، أو ألا يبادر ويعيد العقل إلى عالم الابتعاد عنه والقلب إلى الرين والسواد والحواس إلى التبلد وفقد هذه الراحة والرحمة وهكذا دواليك أيضًا.

أنا أم الشيطان
بعد مثال القرآن يتضح لنا لماذا تزداد قراءة القرآن في موسم الرحمة أكثر من غيرها وما ينطبق على القرآن فهو ينطبق على غيره فعدم وجود شياطين الإنس والجن يعطيه مجالًا أوسع للمبادرة والعمل ومن لا يقوم بذلك فلينظر إلى عقله وقلبه فهما اللذان يحركانه وليس له حجة بعدم الرغبة في القراءة والتدبر للوساوس الشيطانية التي قد تكون موجودة في غير هذا الشهر الكريم.

موائد الطعام وشهر التسمين
فكرة أن شهر رمضان المبارك هو موسم الطعام والمأكول والمشروب هي أيضًا تمر على العقل كما ذكرنا في مثال القرآن فإن كان موروثه يتوافق معها وهو الغالب فإنه سيقبل بها والقليل القليل من لا يرغب أن يكون شهر رمضان المبارك شهر التسمين وتنتقل الفكرة قبولًا ورفضًا للقلب الذي يتعامل معها بحب الأطعمة ولذائذها فإن قبلت بالعقل قبلها وبادر لحبه لها وإن رفضها العقل تحين الفرص للتمتع بالأكل وإن كان لديه موانع قلبيه من عدم الرغبة بالتمتع بالأطعمة فإنه سيقبل بقبول العقل وإن كان على مضض ولعدم إحراج من تقوم بالطبخ وإعداد الموائد مشمرة عن ساعديها، أو أنه سيعيش الكفاف الغذائي وهذه قلة وبعدها الحواس التي إما أن تتعايش مع روائح الأطعمة الزكية وتقبلها أو تبتعد عنها بأعضاء الجسم كافة، وهنا لأن القلب هو أكثر المواطن تأثرًا فإن الموائد تزداد في هذا الشهر لفكرة أنه موسم التسمين.



error: المحتوي محمي