على مراجيح الطفولة وتباريح الصبا تناغيني أمي بتصورات “أهل لول” عن تشبيه موغل في القدم، ممزوج بالدعابة والفرح والهزل. تصور تكرره خلال العشرة الأخيرة من شهر شعبان وتعيده على مسامع أخوتي وأخواتي كلما كبر أحدهم.
براءة ينطلي عليها الكلام لبعض الوقت حتى تستفيق إلى أمر وعيها، تصور مشوب بالتورية تبثّه والدتي بشكل جدي لتوهم السامع بظاهر القول. ذات مرة ألقته في حضرة جدتي وخالاتي على حين غفلة، ووجهته تحديدًا لوالدتها، سوف أسرده باللهجة المحكية دون تدخل مني فقط بضعة كلمات توضيحية: (ديك اليوم قاعدين في بيت أختي آمنة – شرق فريق الأطرش- أقول إلى أمي وهي ملتهية بالخياطة -التراثية – داكو جاي شيخ عليه عمامته ويش كبرها، داكو يقسم أكل على الناس، عيش، شكر، طحين، ساقو، نشا، سيويه، هريس، لحم، زيت صلصل، كل شيء، وعنده أغراض وحوايج شحنات، قالت أمي، يو صحيح، قلت إليها إيه، – تتأكد جدتي – جاء إليكم؟
قلت: إيه جاء داكو يا أماه، عمامته ويش كبرها، والكل حاش منه، والكل يبغى يشوفه -ترد جدتي-.
يو. ما جاء لينا إحنا، إنچان جاب الينا حوايج، قلت إليها: ما جاء ليكم، قالت لا، داكو يدور من بيت إلى بيت ما يصير ما جاء ليكم، سكتت سكتت أمي وتركت لبراه والخيط اللي في إيدها وردت على كلامي، ذا اسياگش لاميش أحد يدور ولا أحد يقسم، ردت هواها -أخذت نفسًا عميقًا- إيه يا بتي هذا شهر الخير جانا بعطاياه.
تناثر الضحك في فضاء بيت من “عشيش” لزوج خالتي الحاج إبراهيم الصفار -خال الفنان التشكيلي علي الصفار- تفكه ومداعبة على أعتاب الشهر الكريم، جدتي تعرف القصة سلفًا وتفهم رمزيتها، لم ترغب في مقاطعة بنتها، أرادت مسايرتها ملاطفة، وفي الحال سردت جدتي على مسامع بناتها وأحفادها عن مشهد يحمل شيئًا من المفارقة سمعته من أمها مخلوقة: (داهي مرة قريبات شهر رمضان، قام رجلها وجاب ليهم حوايج شهر الله، وكل يوم يروح لزراعته، بعد ما هل هلال الشهر بأيام، جاء رجال وطرطق الباب، من؟ قال: أنا شهر الله أبغى الأغراض، ما تماهلت وقامت أعطتهم وياه وراح بهم، قريبات المغرب جاء رجلها من لمعامرة تعبان من لشغل ولصيام توه بيستريح، قالت مرته ما في فطور: داهو جاء شهر رمضان وأخذ الأغراض اللي جبتهم! يقول ليها: ويشيه، ويش سويتي؟ چفخ على رأسه وما عرفتيه منهو هالرجال، أقول لك قال لي أنا شهر الله يبغى أغراضه، وأعطيتهم وياه ويش أسوي بعد أخذهم)، تناثر الضحك بين الجالسات، هن يعرفن المراد، لكن الصغيرات علقن بالآتي وتسابقن بالتعليقات “هذه هالمرة بهيمة ما عندها فكر، لا. هذا واحد متقصدنهم ولعب عليها، حرامي يتخبز، يمكن رجال فقير يطلب رزق الله، وليش عطته لغراض كلها إنچان عطته شويه وخلت ليهم الباقي، لا لا هذه خرافة، ما تتصدق “.
هذان التصوران الشعبيان ينمان عن أجواء رمضان في تلك الأزمنة الماضية، وكلا الحكايتين على الرغم من بساطتهما ووضوح المعنى؛ الأولى: تعني أن رمضان يأتي بخيراته دون سائر الشهور شبه بشيخ جليل يقدم عطاياه ويوزعها على الناس، والثانية: من طبيعة الشهر الفضيل أنه يستهلك “المقاضي” التي أحضرها رب الأسرة، يومًا بعد يوم سوف تتناقص وربما تنتهي “المؤنة” قبل انتهاء الشهر.
للحكايتين وجه آخر تستقرئان الوضع المادي السائد بين الناس، حيث الأطباق المتنوعة لا تؤكل إلا في شهر رمضان فانتظارها مثل “هلة العيد بين الأيام”، طبخات لها طعم خاص ونكهة متفردة مقتصرة فقط على الشهر الكريم، بينما في الوقت الراهن الأطباق حاضرة على موائدنا طوال العام! طالما الأيدي الأجنبية جاهزة لتلبية إسرافنا في كل وقت! بذخ وتخمة ومرض، هل فقدنا طعم تلك الموائد المزينة بروح تعاون أمهات الأمس اللاتي يتبادلن طبخهن بين الأهل والجيران، “محلاه، هذا طبخ فلانة”، تواد وتراحم برحابة صدر رغم المشاق، لكن انصافًا لا يبخس حق المتفانيات في وقتنا الحاضر وهن كثر.
تتشظى الذاكرة في متاهات الزمن، يلملمها الحنين كنمارق مصفوفة، وسائد حلم، إغماضة عين، ارتحالات لمرابع الصبا.
عند مغيب شمس آخر أيام شهر شعبان نستعجل الخطى صعودًا فوق قلعة (قصر تاروت) المنتصبة شموخًا منذ قرون، نمر بين الكتل الصخرية الضخمة، ونتكئ عليها ارتقاء للأعلى، نتحاشى الحجارة المترامية على السفح المرصع بقطع لفخاريات مهشمة، ندوس عليها دون اكتراث، تقودنا الخطوات نحو الهضبة المتعرجة بين البرجين، ننتشر وقوفًا في فضائها الرحب الممتد بحضارات الأمس، نلتقط أنفاسنا في حضن التاريخ، نلامس الأثر تلو الأثر، نشم رائحة غزاة مروا من هنا، وأقوام عبروا عباب البحر، استوطنوا فراديس الجزيرة وأنشدوا التراتيل في المعابد، ركبان سرقوا الكنوز والطقوس ونبشوا المدافن، أسرار تخبئها القلعة في ثناياها، لتراث الأسلاف وأمجادهم الغابرة، تهمس لنا بعضًا من حكاياتهم التي لم ترو بعد.
يأخذنا الشوق لنتمثل وقفة الآباء والأجداد في ذات المكان من كل عام، وكل منا يمني النفس برؤية العزيز القادم من الآفاق، نرقبه من عل، فتصغر النخيل الباسقات، نمعن النظر حنينا لعلنا نحظى ببريقه هذا المساء، أبصارنا مصوبة نحو الغرب، نتقصى بسمة قوس، قبس من ضوء، نتحرى رؤية هلال رمضان، ثمة عيون بصرها حديد اصطادت سناه، أحضرته ألقًا من ضياء، وجوهنا مستبشرة بهلاهل المسرات، غدًا سيكون غرة الصيام، نهبط بأجنحة الفرح ورجال تعانق رجال.
ثقاة الرؤية يبلغون أعيان البلدة، ويشهدون أمامهم بأغلظ الأيمان بأنهم رمقوا الهلال، تسري الطمأنينة في القلوب، يشاع الخبر لجميع الأهالي، ويقف ناطور السوق بالقرب من (حمام باشا) وكأنه في حالة أذان (يا أجاويد، جاكم شهر الخير، يا مؤمنين جاكم شهر رمضان. بكرة الصيام. عساكم تصومونه كله بالتمام).
سباق الطفولة يقرع الأبواب طربًا، نقبّل رؤوس الأمهات، ونأخذ بعضًا من أواني الطبخ (ملاس وطاسة) نقرعهم طرقًا متبادلًا، ونجوب الطرقات (جانا جانا شهر رمضان. أبو القرع والبيلجان). (يا هلال هليت بدارنا ضويت. يا هله ويا هله. يا هلال الفرح قليبي انشرح. يا هله ويا هله). مساءات رمضان تشع بأنوارها الروحانية، قراءات تعطر المساجد، تلاوات تنبعث من مجالس الذكر في ربوع الجزيرة، نفحات إيمانية تشع رحمة على النفوس وبين أفنية المنازل، تنتفي الوحشات الليلية، تغادر أحياء الديرة القديمة، تزيّنها فرحًا ضي الفوانيس، ومسابقات أعواد (شمس الليل) والمصابيح اليدوية (الليتات)، نتسابق بتسليط الاضاءة على الجدران والطرقات (ليتي يولع سفرة وقلوب. ليتي يوصل ضواه لبعيد)، ليلنا يحلو بسرد (السوالف) والألغاز، والتهام (النخج والباقلة) طفولتنا تفترش الأرض بألعابنا الشعبية، ولعبة (الخشيشو) سيدة السهر، يضنينا الردح، والوقت يدركنا، إشارة منتظرة من جلباب النعاس على أمل اللقاء في الليالي القادمة، أصوات المجالس هدأت تراتيلها شيئًا فشيئًا إلى حد الصمت، العابرون قل رواحهم، أجسامنا أضناها القفز والنط والحجل والاختباء عند (الدراويز) ومنعطف الساباط، وقبل منتصف الليل بساعتين تقفر الدروب وكل في بيته.
في اليوم التالي نجلس صباحًا لكن الجوع ينهشنا، نرى الأكل أمامنا ونجزع، حرام أن يلامس اللسان والشفاه، ولكم أرعبونا الأهل والأصحاب بكلمات التهديد والوعيد (إذا أكلت في النهار فأنت في النار)، وتتوالى المترادفات (من صلى ولا صام في النار حطام) (ومن صام ولا صلى في النار يتقلى)، يا أيتها النار هل خلقت لعذابات العاصين؟ يمر النهار عصيبًا طوال أيام (الگيض)، كنا نكره الشمس وندعو عليها بالغياب، ننشد قدوم الليل (أذن يا مؤذن ترى الصيام جاعوا. وإذا منت امأذن، جاك الوجع في ساعة)، وقبل النداء بلحظات، نرقص فرحًا على دوي مدفع الإفطار بدارين أو الزور (بم) صوت يأتينا من بعيد ونصيح وسط الفرجان (فارت الواردة وأميمتي قاعدة) لم تكن أمهاتنا جالسات بل متعبات لا يعرفن للراحة سبيلًا، لا خدامة تساعدهن ولا تقنية العصر تخفف عنهن الأعباء، لا غسالة لا ثلاجة ولا خلاط ولا مكنسة كهربائية، منهكات طوال اليوم!
مع حلول الظلام يؤنسنا نداء (الله أكبر. الله أكبر) تخلو الأزقة من المارة، دروب شبه موحشة، إلا من صوت القطط، ضوء الفوانيس ينير المائدة، أفواهنا متلهفة، نلتم في حضن العائلة التفافًا على سفرة الخوص الدائرية، نرقب فطورنا التقليدي المزدان ببعض عطايا الأهل والجيران، وما إن ينتهي الوالدان من الدعاء (اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا) يشرع الأب بمد يده وتعقبه الأم ثم تتوالى الأيدي تباعًا، نسد جوعًا قد يكون عند بعضنا كاذبًا، يعني (أكرم بطنه خفية أثناء النهار).
وفي اليوم التالي تتعالى مجادلات البراءة والتشهير بين صبيان الفريگ: (من قال إنك صايم؟، لا والله عجل أنت اللي صايم، شكلك ما شفت لصيام من وينه! اسكت بس اسكت يا فاطر، چداب من عيونك، لو تحلف بدينك ومذهبك فاطر فاطر، وأنت بعد باشوف لسانك، لونه فضحك. فاطر فاطر)، ويأتي المتبجحون (أنا صايم وعلى البيوتة قايم)! وكان البعض منا يتحايل مرضًا إذا ضبط وهو يأكل خلسة، فيوزع الآلام على جميع أعضاء جسمه ليستعطف من حوله (أنا مريض أنا تعبان ما أقدر على لصيام)، وبحنية الأمهات يهمسن في آذاننا (يا أولادي صوموا نصف يوم إلى قريبات أذان لظهر، وإذا جيتوا تسرقوا لا تأكلوا قدام أحد، خلوا هذا الشيء بينكم وبين ربكم)، إنه تدريب مبكر لنتعود على الصيام إلى أن نصل سن البلوغ، عرف متبع وهو ما يسمى بـ(صيام العصافير) كانت نوايا أهلنا الطيبين ترشدنا لفعل الخير بصورة مقنعة ومرضية.
أثناء تدرّبنا على الصيام كان وضعنا متعبًا، فالسهر لا يمتد معنا إلى نصف الليل، حدودنا الساعة العاشرة، ثم نخلد إلى النوم بعد أن يهدنا التعب من ممارسة ألعابنا الشعبية، وأحيانًا تفوتنا وجبة السحور، ومن الصباح يوقظنا حراك أهل البيت وجلبة المارة بين الطرقات. صيام (زمان أول) كان شاقًا عند الجميع، حيث كل المهن قائمة بسواعد أهل البلد، وتمارس طوال شهور السنة وأغلبها في النهار، واليد العاملة الأجنبية لم تطأ أقدامها أرضنا بعد، وعموم النساء تكدحن من طلوع الشمس إلى ما بعد الإفطار، والتعب يتضاعف خصوصًا في أيام (الگيظ) لا مكيفات لا مراوح، لا ثلاجات، وبعض البيوت لا يوجد بها حتى كهرباء واستمر هذا الأمر لغاية منتصف السبعينات من القرن الماضي، بعد ذلك تبدلت الأحوال تدريجيًا، ودخلنا شيئًا فشيئًا عصر الرفاهية والرخاء، والاتكالية على الغرباء، والأغرب حتى وجبتي الفطور والسحور لم تعدا كاملتين من صنع البيت، وشتان ما بين صيام الأمس وصيام اليوم، رمضان الماضي مضني مكلف متعب، الجوع والعطش ينهشان الأبدان، سلام على الكادحين والمطحونين الذين صلتهم الشمس في سبيل لقمة العيش. كانوا يقولون (افراق رمضان عيد)!