الحياة العملية تختلف عن الحياة الدراسية، لذا فإن أول يوم يجيء مُحملًا بالذكريات، يختصرها في لحظات كأنها فيلم سينمائي، تُظلل عليه غيماتها بالمطر، لتزهر السّعادة، وتتسع العينان بالراحة.
وُظفت حنان وياسمين في نفس المدرسة الواقعة في وسط مدينتهم، والتي لا يتعدى الوصول بالسّيارة إليها مدة العشر دقائق، بينما عبير جاء توظيفها في مدينة مُجاورة، تستغرق قرابة النّصف ساعة.
يحملك القدر إلى حيث أنت، ليُغرقك بالسّعادة، وأيُّ سعادة في قلب حنان، كوجودها مع ياسمين في نفس المدرسة، تتأمل ابتسامتها كلّ صباح، تنفردان مع رائحة القهوة، تتجاذبان الحديث في السّاحة الخارجية بين العُشب، والأزهار ذات الألوان البارزة، كلون وجنتيهما، وبعض من زخات المطر تُلامس زقزقة العصافير.
أليس جميلًا أن تُرافق من يُشبهك، وتتوافق معه في كلّ شيء، أن يكون التّلاقي أيضًا في الفكر، في طريقة التّعاطي مع صُروف الحياة، في ماهية انجذابك لها، لتُصبح الدّنيا في عينيك، كالحُلم، الذي يُغرقهما معًا، ويُوقظهما معًا.
بعد الانتهاء من اليوم الدّراسي، استقلت حنان سيارتها، ولوحت بيديها إلى ياسمين، التي أزاحت عن يديها كسل الحياة، وتُصافحها على أمل اللّقاء غدًا.
عندما وصلت ياسمين إلى شقتها، انطفأت شُعلة ابتسامتها، لفرحتها بأول يوم دراسي لها، وتعرفها على زميلاتها الجُدد، وأنسها بوجود حنان معها.
لا تعلم، لماذا ينتابها البُكاء الدّاخلي كلّما كانت في شقتها، تستحضر ملامح زوجها، تستذكر تصرفاته المُتلاطمة، كالأمواج بين الطّيبة حينًا، والقسوة أحيانًا أخرى، تُحاول أن تقتنص اللّحظات الجميلة معه، إلا أنَّها تُسافر من عينيها عنوة، لتزدحم المآسي، الحسرات في قلبها، لتعود إلى وحدتها، غُربتها الذّاتية.
تناولت البطاقة، التي وضعتها على الطرف الأيمن من مكتبها، والمكتوب عليها كلمة إلى الرّوائي الروسي دوستويفسكي، وهي: شعرت برغبة في البُكاء عندما أخبرني أحدهم أنه مُعجب بصلابتي!، هو لا يعلم أنّي فضلت السلام بدلًا من المُكافحة، وأن روحي تبكي من الوحدة.
يشتاق الإنسان لأن يختلي بذاته، ويعيش سيمفونية الوحدة، ينسج عالمه الآخر، بعيدًا عن الضجيج المُر، هي حالة تأمل ذاتي، تغرق في ذاتها، تبُوح بأسرارها، يبدو الأمر مُغريًا. تُدمدم ياسمين
سقطت دمعتان ساخنتان على وجنتيها، وهي تُحدق في طيف، تشتاق كلماته، كلّما احتواها الألم، كلّما اجتر الحُلم قدميها إلى البُستان، الذي تهفو إليه، تناولت هاتفها النَّقال، فتحت صفحته، لتقرأ كلماته، كم اشتاقت إليها، إنَّها بمثابة البلسم، الذي يُخفف عنها هذا الكمد، هذه الغُربة المُفرطة في داخلها.
كعادتها، تغرق في كلماته، أحسّت بحاجتها إلى فنجان قهوة فرنسية برائحة البندق، أعدتها، وجلست تتأمل كلّ حرف كتبه، تُحاول أن تفك أحجيته، تلاعبه بالكلمات، ثمّة من يكتب، مُحاولًا الجُهد كلّه، ليُخفي ما بداخله، ليخلق الإيحاء بطريقته، يُخفي ما بينها، ما تهواه النّفس لأن يظهر.
كتب في الساعة السادسة صباحًا، يقُول دوستويفسكي: “كيفَ احتملت فكرةَ أنَّك وضعت ثغرة مُؤلمةً في صدر أحدهم سترافقه طوال حياته، ومضيت هكذا دون أن تكترث لشيء”.
كأنَّه الآن، يُعلق بلغته على كلمات دوستويفسكي، كتب:
في هذه الحياة، كالبحر بأمواجه من الدّروس الكثيرة، والنّوعية، تأتي على مائدة الإنسان، كسلة من الفواكه في كلّ لحظة، أراني، كفرد ينتمي لهذا الإنسان، يمنحني الوقت الكثير من هذه الدّروس على شكل رسالة، تتكرر بين الفينة وتوأمها، لكنّي، كالأعمى لا أبصر أبجديتها، وكالمُغمى عليّ من المس، لا ألوذ بالحقيقة، وإن كانت مُرة.
الإدراك حالة وعي، تُحاكي ذاتية الإنسان، تزامنًا مع ما يتمتع به من ثقافة، ومُعالجة درامية لما يكتنزه في داخله، يُسقطه على الأشياء من حوله، حقًا، نصل إلى حالة الإدراك بعد تفاعلات عقلية، ولكن نغيب العقل في تصرفاتنا، والذي من الضرورة بمكان، أن يُتبع.
“أن تأتي مُتأخرًا خير من ألا تأتي”، مقُولة ذُو قيمة فعلية، فقد تمرّ على الإنسان فترة ما، يمشي في حياته مُهرولًا باتجاه شيء ما، مُغمضًا عينيه عن الحقيقة، التي تُطارده، كلّما فتح نافذة العقل، ليدخل الضّوء.
لذا، كم أهفو لذاتي، التي غابت عن ذاتي عُمرًا، لأقوم بالكتابة عنها، كالرّثاء، يا لهذه الغيبوبة، التي تنتابني، ألم يحن الوقت، لتُعانق ذاتك، لتكون أنت، كما عرفتك ذات يوم.
أيّها البحر، أتذكر تلك اللّحظات، التي كنت أداعب فيها أمواجك، لأكتبني في زرقته، أراك تذكر ذلك، ولك كلّ العتب عليّ، كم تركتك هائمًا، لأعيش الضّياع، مُتسكعًا في الطُرقات اليبس، خُذني إليك مُجددًا.
إليّ، ألمهني لغتك، أعدني إلى حيث كنت.
إيه، يا أيُّها الطّيف، الذي انزاح من طيفي، ستُدرك ولو بعد حين أنك كنت الخطأ.
ما يُخجلني من ذاتي، أنّي لا أسعى لها، والشّيب اتسع لونه في رأسي، واقتربت من الفناء.
ما يُخجلني من ذاتي، أنّي قضيت عُمرًا مع الآخرين، وأصاب القلب ما أصابه من الأوجاع، قد يكون السّبب في ذلك، ليس هم، لكنه مني.
يا خُضرة النّخيل الباسقات، امنحيني دفء اخضرارك، علني أستفيق من الغفلة، لأبصر العُشب، والزّهور، لأشم رائحة الفلّ والياسمين.
فقدت القهوة سُخونتها، انسكبت على أصابعها، ولم تشعر بذلك، كانت هائمة في بوحه، تُتمتم: ما السر فيه، لماذا يُمارس جلد ذاته، مع كلّ ما يمتلكه من الجمال، والعُمق.
ازداد الاضطراب في قلبها، أنستها كلماته، ما تُعانيه من الهم.
هكذا هي المرأة، تعشق البحث في المعاني، التي لا تظهر، كثيرًا ما تعشق معرفة الأشياء، لديها لهفة كبرى في ذلك، وهذا لا يقتصر على ياسمين وحدها، هناك أمور مُشتركة في الغالب، فإذا أردت أن تجلب اهتمام إحداهنَّ، فامنحها نصف المعنى، ستجدها تلح عليك، لتُكمل المعنى.