في مانجروف سيهات.. من دارين.. أحمد الدحيم.. معلم يصنع «القراقير».. عرفته الجنادرية 25 عامًا ومونديال قطر احتضن حرفته

علاقة غريبة عن أقرانه بدأت منذ 6 عقود، وتحديدًا في سن الخامسة عشرة ربطت بين ابن جزيرة دارين أحمد عبدالله عبد اللطيف الدحيم وبين صناعة القراقير بعد أن وجدَ نفسه مجبرًا على ذلك بحكم عمل إخوته جميهم فيها فكان طالبًا على مقاعد الدراسة في الفترة الصباحية، وحِرَفيًّا يطوّع الأسلاك “الأسيام” بزراديته أو مقصه؛ ليصنع منها قراقير الصيد التي كانت ولا تزال مطلبًا للبحارة والغواصين الذين لا يستغنون عنها في صيد غالبية الأسماك، حيث تُرمى في قاع البحر فارغة، وتُسحب بعد أيام وقد غدت كنزًا ثمينًا بأنواع وأحجام مختلفة من لحم البحر الطري.

معلّم وحرفي
امتهن الدحيم صناعة القراقير كفرضٍ عائلي من إخوتهِ الكبار الذين كانوا يزاولون هذه المهنة، ويرتزقون من خلالها، ولكنها أيضًا لم تقف في وجهه عائقًا وقتيًا عن إكمال دراسته، بل واصل مشواره التعليمي وأصبح معلمًا انتفع الطلاب بعلمه لمدة ثلاثين عامًا من عمره، وبقي رغم عمله في سلك التعليم محافظًا على هذه الحرفة الأصيلة التي بقيت معه رفيقة الوقت بعد تقاعده من التعليم.

صعوبة محببة
خلال مشاركته في فعالية المانجروف بمدينة سيهات التي تقام في منطقة غابات المانجروف بسيهات في الفترة بين 2-4 مارس 2023، حكي الدحيم لـ«القطيف اليوم» بعضًا من أسرار وتفاصيل صناعة القراقير حيث يقول: “وجدتُ نفسي تلميذًا على مقاعد الدراسة نهارًا، وتلميذًا أمام صناعة إخوتي الكبار للقراقير مساءً، وبقيتُ الوحيد من بينهم الذي أمارس هذه المهنة بكل حب، فهي المهنة التي صارعت الزوال والاندثار للحاجة الماسة إليها في الصيد رغم تطوّر الزمن وتطوّر إمكاناته”.

وأضاف أن صانع القراقير لا يحتاج إلا إلى مقصه وأسلاكٍ فولاذية مرنة مغطاة بمادة مانعة للصدأ، فلو بقي القرقور في قاع البحر شهورًا ممتدة قد تصل إلى نصف عام فإنه لا يصدأ مطلقًا، مبينًا أنه بحكم الجلوس المستمر لصانعيها لساعات متواصلة فإنهم معرضون للإصابة بآلام الركب، وهذه الصعوبة بالنسبة له هي الصعوبة المحببة؛ لأنه يمارس مهنته بكل شغف وانتماء.

سعف النخيل
يعتز الدحيم بمهنته التي بقيت صامدة في وجه الطفرة الزمنية في كل شؤون الحياة ومجرياتها، قائلًا: “صناعة القرقور وإن تغيرت المواد المستخدمة فيها قديمًا من سعف النخيل، وموادها المستخدمة بعد التطور من الأسلاك الرقيقة المرنة الصينية أو اليابانية منها إلا أنها بقيت حرفة مطلوبة بحكم ارتباطها بمواسم الصيد والبحر واحتياجات الصيادين، فهي وسيلة صيد من صميم التراث تستعمل لصيد جميع أنواع الأسماك تقريبًا، والقرقور عبارة عن قفص مشبك على شكل نصف دائري، وتختلف سماكة الحديد المستعملة في صناعته إذ يستخدم الرفيع منه في الصيف والمتين في الشتاء”.

ساعات ممتدة
وأوضح الدحيم أن فترات العمل في صناعة القراقير مختلفة بحسب أحجامها فالباع الواحد أي المتر من القرقور يستغرق العمل فيه من 3 إلى 4 ساعات، أما الباعان فيأخذان منه 8 ساعات متواصلة، ويمتد به الوقت إلى اليوم واليومين إذا وصل حجم القرقور إلى الثلاثة أمتار، ويتراوح سعر القرقور الباع الواحد من 50 إلى 70 ريالًا، والباعين ما بين الـ80 إلى 100ريال، في حين يصل سعر القرقور الأكبر إلى 250 ريالًا.

اندثار
يتأسف الدحيم على قلة العاملين من السعوديين في هذه المهنة، لأن عدد صانعيها أصبح محدودًا جدًا، وأصبح الاعتماد على صناعتها على العمالة الوافدة، منوهًا بأنه حاول أن يعلّمها لأبنائه للمحافظة على هذا الإرث إلا أنهم قابلوه بالرفض، كما أنّ قلة الحوافز أو انعدامها عند الجهات المنظمة للمهرجانات الحرفية تجعل الأمر محبطًا لهم؛ حيث إن لفة الأسلاك تُباع بالأسواق بـ250 ريالًا وهي غير متوفرة أيضًا في السوق السعودي، بل يتم الحصول عليها من البحرين أو بشرائها من العمالة الأجنبية، وليس هناك مردود مالي أو حوافز تشجيعية للمشاركة وعرض هذا الإرث الثقافي والتراثي للمنطقة.

30 مشاركة
شارك الدحيم في العديد والكثير من مهرجانات المملكة ومهرجانات المنطقة، فقد بقي مشاركًا في مهرجان الجنادرية لمدة 25 عامًا إلى أن تم إيقاف المهرجان، كما شارك مؤخرًا في مونديال قطر كأس العالم 2022 حيث بقي فيه لمدة شهر كامل، إضافة إلى العديد من المشاركات في مهرجانات حائل والقصيم ومكة والرياض العاصمة التي عاد لتوهِ أيضًا من المشاركة في إحدى فعالياتها.

ارجعوا لماضيكم
علّل الدحيم عزوف الأبناء من الجيل الحالي عن هذه المهن القديمة إلى الاتكالية التي تربى عليها هذا الجيل، فقد تعود أن يحصل على كل متطلبات الحياة دون الصعوبة التي كان يجدها ويتكبدها الآباء والأجداد قديمًا في حياتهم، لكن ذلك كما يرى لا يمنعهم من العودة إلى تراثهم الذي صنع ووفر لهم كل ما يتمتعون به الآن؛ ليبقى ذلك الإرث التراثي حاضرًا ومتجددًا وصامدًا في وجه المتغيرات الحياتية.




error: المحتوي محمي