تطرب أذني لسماع كلمات الكتّاب الموضوعيين ويبتهج قلبي فرحًا عند قراءة مقالاتهم؛ لأنهم اتخذوا من الأمانة والمصداقية سلّمًا في البيان والحكم وبنوا قناعاتهم ورؤاهم على علم ومنطقٍ عقلاني وواقعٍ ملموس.
نحن لا نميل إلى المبالغة المفرطة في تقديس الأشخاص أو الموضوعات الذي يمارسه البعض -حديثًا- بحسن نيّة أو ببساطة تفكير.
إن المبالغات المفرطة تجعلُ العصفور يحسب نفسه صقرًا؛ فيطيرُ في عالم الآفاق البعيدة ثم يهوي عند أدنى ريح ولمنحدرٍ سحيق.
إن إلباسك الذهب للذئب لن يحيلَه غزالًا ولو أفنيت عمرك في إقناع البشريةِ بذلك.
نحن مع تكريم رجالات المجتمع وكتّابه ومبدعيه وتقديرهم وإجلالهم أحياءً وأمواتًا؛ ومع الثقافة الحرة النوعية ومميزيها وإنصافهم وبيان ملكاتهم، ومع احترام الطاقات والعطاءات والمنجزات العلمية والعملية بمختلف أنواعها ولكن بلا إفراط ولا تفريط؛ وبمعنى آخر وفق منطق وواقع وعطاء للبشرية.
أرى البعض يصوّر بعض الكُتّاب أو الشعراء مثلًا كأنهم نجيب محفوظ أو نزار قباني، وآخرون يلبسون أساتذتهم بردة النبوّة، وآخرون يؤمنون بأقوال بعض المفكرين أو الفلاسفة أو رجالات الدين أكثر من إيمانهم بما قال الله تعالى، وآخرون يعكسون الاتجاه فيسقطون من لا يحبون بأقسى الوسائل وآلمها.
نحن لا نجدُ في الفرق كافة -المعنية هنا- فنون النقد العلمي الموضوعي وقواعده، بل ولا حتى أولياته؛ وإنما جل ما يكتبونه لا يتخطى أن يكون انطباعات لحظية قابلة للتغيير أو الانقلاب فيما بعد تبعًا لاختلاف تقلبات القلب.
أحبّوا من تشاؤون ولكن هونًا هونًا، واختلفوا مع من تشاؤون ولكن هونًا هونًا، وتيَقنوا أن الواعين المنصفين يقرؤون الحقائق مجرّدة بعيدة عن مشاعر أو انطباعات الناس.
لم تعد الثقافة المدنية أو القبلية أو النفوذ أو الأموال والجاه كافية لتغييب الحقيقة عن الناس أو تغييرها أو تشويهها أو احتكارها كما كانت سابقًا، ولم تعد المجتمعات تبعية كما كانت، ولم تعد العلوم والمعارف والمناصب والإنجازات والعطاءات منوطة بمباركة أحد كما كانت أيضًا.
أشرق من رحم العدم وجود ملأ الخافقين وغاب من قلب الوجود وجود إلى عالم العدم المطلق.
وعليه: نأمل أن يكون مجتمعنا بفئاته المختلفة مجتمعًا علميًا واقعيًا منطقيًا عقلانيًا بعيدًا عن الذاتية والمبالغة والخرافة والفئوية التي سادت المجتمعات الجاهلية قديمًا -سواء في الأشخاص أو الموضوعات- والتي يسعى البعض لإعادتها من جديد لبعض المجتمعات المعاصرة ولكن بمسميات وإيحاءات مختلفة، كما نأمل ألا تصبح مجتمعاتنا المعاصرة مجتمعاتٍ فاقدة للبوصلة بحيث يتساوى فيها العالم والجاهل والنكرة والمعرفة والظالم والمظلوم والصادق والكاذب وتسود العادات والتقاليد والخرافات والنفوذ بدلًا من سيادة العلم والمعرفة والمنطق وفنون النقد؛ لأن هذه المرحلة أشد خطرًا وأوغر جراحًا من المرحلة الأولى وبكثير؛ ورد في الأثر (اللهمَّ أرني الحق حقًا حتى أتّبعه وأرني الباطل باطلًا حتى أجتنبه، ولا تجعله عليّ متشابهًا فأتّبع هواي بغير هدى منك).
إن هذه المرحلة من الضياع الاجتماعي عند فئة أو الجحود المجتمعي عند أخرى هي ذاتها المرحلة التي عاشها أمير المؤمنين -عليه السلام/ حين قال ثلاثًا (أنزلني الدهرُ، أنزلني الدهر، أنزلني الدهر) أجارنا الله وإياكم منها.