أشباح الشتاء كوابيس ليلية، قضت مضجعي، طاردتني أفقًا من خيال، وسعة من أحلام، أخذتني بين كر وفر على وقع حكايات أمي المشوبة بالحنين والأنين، فكلما دار هواء الشمال بلسعاته الباردة استعادت ذكرى خالها، بزفر الأشجان “البرد چلب والبحر چلب”.
استفهمت منها حسب رؤيتها لهذا التشبيه الشعبي، وقالت فيما معناه، مواسم الشتاء “زمان لول” قاسية جدًا، برودة تضرب العظم، يلبس الناس ثيابًا على ثياب وتظل أبدانهم في حالة برد، وكأن البرد كلب ينبح يريد المزيد والمزيد من اللباس “نلبس هاون وجاون ولا ندفأ، وعافيتنا تنتفض من البرد “.
وكذا البحر إذا هاجت أمواجه المتلاطمة ترتفع علوًا وتنزل بقوة، وتهدأ ثواني وتعاود الكرة، إيقاعات متلاحقة بأصوات مزمجرة مثل نباح الكلب، أمواج غادرة كم سحبت من أنفس نحو المجهول وغيبت أخرى عن الوجود.
تنفث أمي الأهات وتسرد على مسمعي حكاية خالها الحاج حسن مهدي آل زرع، حيث تدور أحداثها شتاء عام 1964 ميلادية، تلك سنة باردة كالصقيق لم تشهد المنطقة مثلها من قبل، حيث تجمد فيها الماء، “الصفاري” والأواني الفخارية وقدور الطبخ تحول ماؤها إلى ثلج، حتى الركايا اكتست بطبقة ثلجية، الحنفيات لا ينساب منها الماء، الفوّهات والأنابيب متجمدة! في ظل هذه الأجواء خرج خال والدتي من بيته متجهًا نحو البحر ليكون على موعد انحسار “ماية الفبر” بداية الجزر عن “الحضور” -مصائد الأسماك- مستقلًا حمارته المحبوبة والعزيزة عنده، والمعروفة عند الصغير والكبير “بأم العباية” وقد خصصها “لطلعات الحضور”، هي المدللة عنده، لا يقودها سواه، والويل الويل لمن يأخذها من محبسها دون علمه، حمارة شهد فريق الأطرش ميلادها، ترعرعت وخدمت بضع سنين عند جدي محمد هبوب ثم أعجب بها خال والدتي فاشتراها منه وخصصها فقط لمشاوير البحر، وبمجرد أن يجهّز البردعة “عدتها” ويصعد فوق ظهرها تعرف الدرب، تنطلق سريعًا أو اعتياديًا حسب نوعية التربيت على رقبتها، تفهم رموز الإشارات الصوتية بين التوقف والمسير.
سار “حجي حسن آل زرع بعد صلاة المغرب مباشرة على متن حمارته “أم العبايا” وكل من لقيه في الدرب ينصحه بالرجوع وعدم الذهاب للبحر وحذره الحاج العسكري صاحب “المضوي” المختص بخدمة البحارة وهو خارج من عشته الكائنة شمال نخل لفليه، قائلًا له: “وين شايل يا حجي حسن، عود لا تضر نفسك، الناس في بيوتها ما هي دفيانة وأنت بتجابل البحر في هالليل لظلم”، انطلق غير مبالٍ بكلام أحد معتزًا بجسارته وثباته وتعوّده على البحر في كل المواسم والأوقات حتى في عز أيام البرد، نفسه المتوثبة تراوده بفخر وعزيمة: “أنا ولد البحر ما أهاب ولا أخاف من شيء، متعود عليه سنين، ساعة زمن باطاول لينا أوادام لباچر وأنا جاي”، ومستذكرًا طفولته بأنه كان يرافق والده حجي مهدي منذ نعومة أظفاره، عرف البحر وخبره وتنفس ملوحته وهو ابن ست سنوات.
ذات مرة ارتقى لوحًا خشبيًل وتمدد على بطنه جاعلًا يديه تجدف، بينما والده بالقرب منه “يباري الحضرة” مشغولًا بجمع الأسماك، هبت نسائم البحر العليل فخدرته الطفل وأسلمته للنوم، تلاعب به الموج وسحبه خارج الحضور، تنبه والده وصرخ “وين راح ولدي، يا الله، وين سحبته الماية”، نادى أصحابه وخرج كل واحد من حضرته للبحث عن حسن التائه، وبعد بحث مضن استمر قرابة ساعة وجدوه عالقًا بين “أشجار الگرم” وهو لم يزل غارقًا في النوم على متن اللوح، أيقظوه بأصواتهم الجماعية، انتبه دون فزع ولا خوف، وكأن الأمر نزهة بحرية!
تربى على هذا الإحساس وكبر، متمرسًا شغوفًا بحب لا متناه للبحر، خابرًا عوالمه عارفًا بمفاجآته.
انطلق الحاج حسن بكل الشوق كروتين يومي ولباسه المعتاد سواء صيفًا أو شتاء “غطرة” ملفوفة على الرأس وإزار وفانلة، هذا الزي طوال الوقت مقبول إلا أيام البرد فالأمر صعب كيف لأجسام البحارة أن تتحمل ذلك!
اجتاز كل دروب المزارع متجهًا نحو البحر، أثناء المسير رفع رأسه نحو السماء بإزاحة جزء من رداء “الخيشة” الموضوعة على رأسه والأكتاف، لم يلمح أي نجمة، كل شيء من حوله مظلم، حتى رأس حمارته لا يراها إلا قليلًا، عتمة وسواد وهدوء إلا من خطوات الحوافر عند قطع تلال “لجبال” الأثرية. وصل للشاطئ الرملي بعدما طوى مسافة كيلو ونصف الكيلو، نزلت به الحمارة نحو بداية البحر وسرعان ما تباطأت حركتها، يسمع تكسيرات كلما وقعت حوافرها على الماء لكنه لا يرى شيئًا، تثاقل خطاها وهو على متنها، هبوب الشمال تزكم الأنوف، تلثم بغطرته وقطع على ظهرها مسافة تقدر بـ2 كيلو للاقتراب من “حضرته” البعيدة جدًا المسماة “لوسيطة” التي تقع عند “خور لسعيفة ” الخطر، هذه الحضرة مع حضرته السابقة “تلاويس” التي تركها واستأجرها الحاج “علي قاسمه”، هما من أصعب حضرتين في بحر شمال جزيرة تاروت، لا يصل إليهما إلا الأبطال حسب شهادة خالي حسين هبوب في وصفه عن الاثنين: “واحد الزير وواحد ابن عباد، هذاك حجي علي قاسمه الزير أنشط من خالي، بس خالي كشجاعة أشجع وأشطر في الأعمال”، نزل الحاج حسن آل زرع من فوق ظهر “أم العباية”، خاض البحر بحراك صعب كأنه يمشي على بلاط سراميك يتكسر من تحت رجليه، اهتز بدنه، دخل مركزية “حضرته” وإذا بطبقة ثلجية تغطي سطح كامل الحضرة، غرف عبر “مسلاته” سمكًا وربيانًا حتى امتلأ “الجراب ” حتى ثقل وزنه، ولم يستطع أخذ كل خيرات الحضرة العامرة بالصيد الكثير، أراد الصعود على صهوة أم “العباية” فلم يستطع، مخر مياه البحر المتجمدة بأقدامه العارية، فتسللت البرودة لكامل جسمه، كلما مشى قليلًا وقع، غالب نفسه وبصعوبة بالغة وصل للشاطئ الطيني المغطى بقطع من الثلج المتناثرة، حاول الصعود ثانية على ظهر “أم العباية” فلم يستطع، حاول المشي ليس لديه القدرة، طاقته فقدت، أطرافه شبه مشلولة، فقد الإحساس بهما، خر على وجهه غائبًا عن الوعي، والحمارة رابضة تئن بجواره ترتعش من شدة هبوب الرياح الباردة، بدأت السماء تبرق وترعد.
بعد برهة من الزمن مر بالشاطئ الحاج إبراهيم شطي، بحار من سنابس أحد أبطال البحر جاء ليبحث عن صديقه علي قاسمه وتأكد أنه لم يرد البحر، وبينما هو راجع رأى رجلًا مرتميًا على وجهه، في البدء جفل وخاف، متسائلًا أهذا رجل ميت وبجواره حمارة تحرسه، أم هو من عالم الجن، التردد سيد الموقف، تشجع وأقبل ويداه تنتفضان، لمعة برق أضاءت وجه الرجل الطريح، شهق قائلًا “يا الله هذا نسيبنا حجي حسن بن زرع” هلع أصابه وخوف سكنه باحتمالية مفارقة الرجل للحياة، قلب أطرافه وناداه، ما من مجيب، وضع أذنه على صدره فأحس بنبض القلب، صعده على صهوة الدابة، جاعلًا بطنه فوق ظهرها على هيئة الراكع ويداه متدليتان من جانب والرجلان من الجانب الآخر كأنه شهيد خسر معركة البحر، أمسك إبراهيم شطي بالحمارة يقودها من حبل رقبتها قاصدًا درب البيت، وبعد أن اجتاز قليلًا واقتربا من منطقة تلال “لجبال” الأثرية، انقلبت الدنيا رأسًا على عقب، هبت عاصفة مزلزلة وبأمطار غزيرة والرعد يصم الآذان، صار الهواء عنيفًا يردي السعفات اليابسة والأغصان الضعيفة أرضا، الأوراق تتطاير، “انقلبت الدنيا هويات وزعازيع مطر” تحول الطريق إلى وحل، مما صعّب حركة المشي، قاوما شطي هذه الأجواء بقوة بأس بجر الدابة المثقلة بحمل صاحبها مع اشتداد الريح، لكنه أخذ يرتعش ويئن من شدة البرودة القاسية والدابة لا حول لها ولا قوة، زاد انهمار المطر عنفًا، وبعد جهد جهيد ومقاومة عسيرة وصل بهما عند حدود نخل عين “أم اشراع” خائر القوى وبأنفاس شبه معدومة، فجأة تزحلقت أرجل “أم العبايا” وجثت على قائمتيها الأماميتين فسقط من على صهوتها الحاج حسن فتدحرج كأنه تمثال تلجي، تناثرت الأسماك في كل جانب، حاولت الحمارة النهوض فلم تستطع، لقد غلبها الجو العاصف فأرداها شبه ميّتة، جسدان ممدان على قارعة الطريق الموحل، والمطر يتساقط بانهمار، أجساد تجمدت من شدة البرد، البرق يضيء المشهد بمنظر مأساوي.
عند حدود الساعة العاشرة ليلًا هدأت الريح قليلًا وتوقف المطر، قام الحاج إبراهيم شطي المنهك هو الآخر بحمل الحاج حسن ورفعه وألقاه وسط عين أم شراع وكذا فعل بالحمارة ووضعها في “السمط الدافئ”، لحظات تحركت أطرافهما من سخونة الماء المنبعث أبخرة، انتبه حجي حسن لكنه لا يلوي على شيء، مخدر الجسم، وبعد الاستحمام رفعه شطي على ظهره وسار به لأن “أم العباية” لا تقوى على حمل أي شيء، مشى به مسافة 500 كيلو إلى أن أوصلهما للبيت والصراخ بالغ لمنتهاه! ظن كل من بالبيت باحتمالية أن يكون البحر غيبه غرقًا نتيجة العاصفة المدمرة والأجواء الثلجية، ألبسوه ملابس ثقيلة ولفوه بأغطية سميكة “برنص فوق برنص” ثم وضعوه وسط الحوش وأشعل صديقه ملا محمد علي الحبيب مواقد النار، تحيط به من كل الجهات “أربعة حمايات” وكلما قدموا له شاي الزنجبيل والدارسين لا يستطيع الإمساك بالكأس الساخن، أعصابه منهارة، بدنه يرتجف، يسقيه أخوه حجي عبدالله رشفات، بالكاد يشرب، أطرافه والشفايف في ارتعاش غادرهم شطي بعد أن اطمأن عليه متجهًا إلى بيوت أحد أقربائه في الفريق، انتصف الليل والجسم منهار فاقدًا للكلام إلا من أنين وارتجاف وعيونه تحوم بتوهان، تطبطب عليه زوجته مشيقرية وتداريه وتنفث العتاب: “جاينك أبو أحمد علي بن سلمان القلاف- هاد الشوط من الخارجية لفريق الأطرش وواصل عند باب البيت وقايل لك: لا تروح يا أبو أحمد البحر، الليلة بدور سايبة قوية، وچم مرة قال لك، جاي هواء شمالي، والليلة هواء سهيلي وتسمع كلامه، وهو يعرف في الفلك ويقرأ حساب الأنجم، وكل مرة يصدق وأطاوعه، چيفه هالمرة ما سمعت كلامه وتقول له لا تخوفنا يا أبو أحمد وتوعده وتقول له منت رايح، وتالي تشد على لحماره وتطلع ولا عندك قيد، وأني أقول لك لا تروح، ارجع ارجع، هذا أنت رحت ودارت السايبة، انچان رحت فيها، لله درك بشطي، الحمد الله الذي نجاك من هالسايبة وغدر البحر”.
شريكة حياته تتمتم بحرقة على وضعه البائس، بريق الفانوس يضيء وجهه وقد أغمض العينين، ولم يزل البرق يضيء الليل الماطر. مرت أيام وهو ملازم الفراش متعب، منهك، لقد أضناه المرض، يتأوه ألما دون مزاج للأكل.
زمجرة عاصفة باردة بمطرها ورعدها وبرقها أصابته في مقتل، رجل كان صلبًا جسورًا تحوّل في ليلة قاسية إلى خائر القوى، مع الوقت حاول أن يغالب نفسه لكن تلك البرودة الثلجية فتكت بشعبه الهوائية، فأتلفت أجزاء من رئتيه، مع ازدياد الآلام المبرحة التي تتنقل بين معدته والكبد، ذهب مجبرًا للقطيف لمقابلة الدكتور الذيباني والذي قال لأخيه الأكبر الحاج عبدالله الذي كان يرافقه “لو جبتوه في نفس الليلة لخلصت جسمه من البرد، رئتيه منتفخة والكبد متضخمة والقلب ضرباته غير منتظمة”.
ظل ثلاثة أيام وهو يرتعد من شدة البرد “الريمز” برغم التدفئة المستمرة يئن ويئن لأن البرودة دخلت جسمه ومناعته هابطة.
يا لها من سنة صقيعية قاسية، عرفت عند أهالي القطيف بـ”السنة التي فلج فيها الماء” ولتقريب الصورة هذا نبش من أرشيف صحيفة “الوطن” البحرينية والتي تتحدث عن شتاء منتصف الستينات من القرن الماضي الذي عم الخليج، أقتبس جزءًا مما جاء في الصحيفة المذكورة: “تعرضت البحرين لموجة صقيع في يناير سنة 1964، لم تشهد مثلها خلال قرن كامل مضى على منطقة الخليج العربي، وضربت الخليج العربي بما فيه قطر والبحرين وشرق السعودية، فكانت الأجواء ماطرة على مدى أسبوع كامل منذ 21 يناير 1964، لقد استمرت الأجواء ماطرة والغيوم الكثيفة بحجب أشعة الشمس، وأصبحت الأجواء باردة وضبابية ورطبة، وأمطار ديمية ما بين غزيرة ومتوسطة، بعدها هبّت رياح شمالية غربية قوية السرعة، وصلت إلى 44 كم، إلى يوم 29 يناير 1964، حيث إن هذه الرياح كانت باردة جدًا، وبعد أسبوع ماطر ورطب وضبابي شتوي، هبطت درجة الحرارة حسب تسجيلات مطار البحرين إلى 2، 3 مئوية على جنوب البحرين حيث تشكل الصقيع على الأشجار والقضبان الحديدية وتجمدت حنفيات المياه”.
إنها سنة زمهرير لم تعرف المنطقة مثيلًا لها، حملت بين جنباتها قصصًا وعذابات وكل أسرة لها حكايتها الخاصة.
بدأ يتعافى الحاج حسن آل زرع شيئًا فشيئًا وإذا تأزّم أخذ بعضه لزيارة الدكتور الذيباني، في كل مرة يزوره يرجع حاملًا أدوية مسكنات، يأخذها طوعًا حيث يظن أنها العلاج السحري، يتقلب بين الألم والراحة المؤقتة مع تقلبات الليل والنهار، لكنه لم يستسلم للمرض استنهض قواه مستحضرًا تشبيهات الأهل والرفاق بأنه “سبع ظلمة”. عاود لمزاولة نشاطه مسكونًا بحب العمل مستعيدًا بريق أمجاده.
إنها مهابة رجل شجاع تجلت في البحر والزرع قصائد بطولية، بسرعة إنجاز الأعمال، يسابق جميع الفلاحين نحو صعود النخيل بعدد وافر ضمن زمن قياسي، لا يجاريه إلا فرد واحد، حسب كلام خالي حسين: “خالي حجي حسن، هاب ريح، جزوم، ما يهاب من أي شيء، شاطر في الأعمال، تشوفه إذا ركب النخلة سريع زي الغزال ما حد يصيده، ما حد كفوه إلا الحاج علي بن محمد المخلوق هذا أزيد من بن عباد”!
تتصرم الأشهر والسنوات وتأتي المواسم وتتغير الفصول، ومعها تراجعت هيبة الرجل، أضحى ثقيل الخطو، منقطع النفس، بالكاد يصعد نخلتين، والثالثة تتعبه، وعزمه للبحر هبط درجات، و”أم العباية” لم تعد كما الأمس، أتعبتها خدمة السنين، يناديه البحر ويذهب ليتفقد حضرته، خلال المشوار تعاجله نوبات السعال، الدابة تستشعر اختناقاته، تتوقف وحين يهدأ تواصل المسير، تمشي الهوينى كأنها تشاطره الألم.
وفي خضم العمل تشتد عليه اختناقات الصدر، بتكالب المتاعب النفسية والجسدية، فالتجأ نية إلى الذي ذرف الدموع عليه مدرارًا، الخلاص عند الإمام.
شد الرحال سفرًا للعراق برفقة زوجته مشيقرية وأربع من أبنائه، وعلى عجل لم يتمكن من وداع أخته ليلى “جدتي”! استقلوا سيارة “جنور” ذات “غمارة واحدة” وسائقها من عائلة البستاني من “حي السويكة” يرافقهم حجي عيسى القطري ومحيسن رجل من البحاري، الرجال بجوار السواق والنساء والأطفال متكدسون على الحقائب، سيارة متعبة والطريق وعرة وخطرة، وبعد ثلاثة أيام حط الركب أرض الغادرية، هبّوا لمكان تهفو النفوس إليه، وكلما لامس حجي حسن ضريح الإمام الحسين ينخرط في البكاء، يتلو دعاء المتوسلين، يتلمس الشفاعة والشفاء من أمراضه وعلله وأوجاعه.
مر بكل المشاهد المقدسة وتوجه لخرسان لزيارة الإمام الرضا “ع”، أسبوع وعاد لأرض السواد ثانية مسترسلًا في الزيارات والأدعية والصلوات، وبعد انقضاء أيام الرحلة التي استغرقت 33 يومًا عقدوا العزم للعودة للديار، احتفلوا بمولد قمر بن هاشم أبو فاضل، ثم حزموا الأمتعة وصعدوا الحقائب، بحماس متقد حمل حجي حسن قاعدتين من النحاس الثقيلتين من أجل ترميم قدور طبخهم المخصصة لولائم الأفراح والأحزان والتي تآكلت من كثرة الاستعمال، رفعهما فوق سيارة “الجنور” ووضعهما بين الأغراض والهدايا، بعدها شعر بالتعب وراح يتنفس بصعوبة بالغة، “ينافخ” كأنه في سباق جري، وقالوا له “قايل لك الدختور لا تشيل أي شيء ثقيل، قلبك ما يتحمل” وقبل التحرك توجه للسلام على أبي الأحرار، خرج بعد زيارة الوداع وعيناه موجهة على القبة الذهبية “إلهي بالعود.. الهي بالعود”، وعند التل الزينبي سقط مغشيًا عليه، حمله المرافقون معه حجي عيسى القطري والمحيسن إلى نزلهم وهم يقولون له: “استرح يا أبو أحمد، ما عليك شر، ويش فيك”، رد عليهم: “أحس روحي بتطلع، آه آه” طلب الذهاب لدورة المياه همّ بالدخول فسقط على الباب، استدعوا الطبيب فورًا، جاء بعد برهة من الزمن، وضع السماعة على صدره بتحسس مكثّف، لكن القلب بلا نبض، الأيدي تهوي والأطراف باردة، جسد بلا حراك، قال لهم الطبيب: “البقية في حياتكم، الحجي أعطاكم عمره”، انكب عليه أولاده الصغار محمد ومهدي ونعيمة وأميرة وأمهم تلفهم بعباءتها وغرقوا في البكاء ذرفوا دموعًا على دموع وكأنهم غسلوه بمآقيهم، صريخهم المفزع هز أركان الخان.
أصرت “مشيقرية” على أن يدفن زوجها عند الإمام، لكن النقود نفدت وأباها حجي منصور المشيقري أيضًا لم يتبق شيء عنده، في الحال باعت قلادتها الثمينة “كرسي جابر” فتوفر لهما المبلغ اللازم وزاد، تم دفع قيمة مراسيم التشييع والتغسيل، وضع الجثمان في “سراديب الموتى” على مقربة من باب السدرة ضمن محيط صحن حرم الإمام الحسين عليه السلام.
دفن حجي حسن مهدي آل زرع في كربلاء وعاد الركب للديار حاملين الحزن أثقالًا، طوال الدرب نحيب لم ينقطع. بلغ الخبر جدتي بأن أخاها دُفِن في كربلاء، ركضت مذهولة من منزل زوجها أبوجاسم سالم تسحب أردية الصريخ، تمددت وسط حوش بيت إخوانها تتقلب بامتداد أرضيته كأنها طير مذبوح، بكت بكاء مرًا يفطر الكبد، دموع بللت وجهها والعيون غائرة حزينة، لسانها يخاطب زوجة الراحل المثكولة “رحت يا مشقرية بالأخو ورديت بلا إياه ليتني، دفنوني وياه”!
يا حزن الليالي ويا مرار السنين بكت عائلة آل زرع وآل هبوب شخصية رجل مقدام حمل صفات أبيه الشجاعة بقوة بأس لا ينثني ولا يلين، لكن نباح البرد والبحر عاجلاه قبل الأوان، رحل عن الدنيا في اليوم الرابع من شهر شعبان عام 1391 هجرية الموافق 1971 ميلادية بعمر الخمسين عامًا.
آل زرع ودّع البحر والزرع من لحظة ركوبه على محامل السفر، حاملًا تقاليد الأدعية والزيارة والصفح الجميل، وبأمنيات العودة لمعانقة رجالات فريق الأطرش، لكن يد المنون خطفته بعيدًا عن الأهل والخلان، رحل مكسور الخاطر لفراق أرض حرثها بأنامله وسقاها بعرقه كاظمًا ضيم الأيام وضراوة العتاب، لفظ أنفاسه الأخيرة بفيض من الحب لكل الناس، مات غريبًا لكنه جاور الغريب.
أنين الذاكرة:
تمت صياغة الحادثة ورحلة السفر حسب أقوال الرواة التالية: والدتي مريم، وخالتي زليخة، وخالي حسين هبوب، وولد الخال مهدي حسن مهدي آل زرع.