في أحد الأيام جلستُ إلى جانب أحد الأصدقاء وقدّم لي نصيحة، وبعد أن أكمل صار يعتذر ويتأسف! قلتُ له: هوّن عليك يا رجل! أنا من يجب علي أن أشكرك وليس أنت من عليه أن يعتذر، ثم إن كانت نصيحتك تنفع أخذتُ بها وإن لم تنفع لم أعمل بها!
الحساسية من النصيحة ليست مختصة بجيلٍ دون جيل أو عصرٍ دون عصر، وإن أصبحت سمةً ظاهرة في هذه الآونة، لا أحد ينصح ولا أحد يقبل النصيحة! ولطالما شكا الأنبياء من رفض أقوامهم النصيحة. نصيحة الأنبياء بسيطة جدًّا؛ آمنوا بإلهٍ واحد واعبدوه! وفي مقابل النصيحة البسيطة تعرضوا لشتى أصناف الرفض والتنكيل!
ثم وصلنا إلى هنا؛ يا عمّي يا سيدي، أنا أنصحك! من قالَ لك أنني أحتاج نصيحة؟ أنا أعرف بمصلحتي منك! أمامك مطبّة أحذرك منها! لا، ليس من شانك! وكما قال دريد بن الصمة:
أَمَرتُهم أَمري بِمُنْعَرجِ اللِّوى … وهل يُستبانُ الرُّشدُ إِلاّ ضُحى الغَدِ
إذا كنت ناصحًا سوف تجد من يبغضك ويرميكَ بالحجارة ويصفك بالتدخل فيما لا يعنيك. لكن في بعض الأحيان عليك أن تنصح وإن لم يُقبل منك، فهل لو رأيت أخًا أو ابنًا لكَ يسقط في بئر فهل تتفرج وتتركه يموت أم تجذبه من طرفِ ثوبه وإن كره؟!
احتوت “رسالة الحقوق” للإمام الرابع من أئمة أهل البيت على جملة حقوق منطقية ومنها حق الناصح: “وَأَمّا حَقّ النّاصِحِ فَأَنْ تُلِينَ لَهُ جَنَاحَكَ ثُمّ تَشْرَئِبّ لَهُ قَلْبَكَ وَتَفْتَحَ لَهُ سَمْعَكَ حَتّى تَفْهَمَ عَنْهُ نَصِيحَتَهُ ثُمّ تَنْظُرَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ وُفّقَ فِيهَا لِلصّوَابِ حَمِدْتَ اللّهَ عَلَى ذَلِكَ وَقَبِلْتَ مِنْهُ وَعَرَفْتَ لَهُ نَصِيحَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُفّقَ لَهَا فِيهَا رَحِمْتَهُ وَلَمْ تَتّهِمْهُ وَعَلِمْتَ أَنّهُ لَمْ يَأْلُكَ نُصْحاً إِلّا أَنّهُ أَخْطَأَ إِلّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مُسْتَحِقّاً لِلتّهَمَةِ – فَلَا تَعْبَأْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَلا قُوّةَ إِلّا بِاللّهِ”.
ولم يغفل في رسالته حق المستنصِح: “وَأَمّا حَقّ الْمُسْتَنْصِحِ فَإِنّ حَقّهُ أَنْ تُؤَدّيَ إِلَيْهِ النّصِيحَةَ عَلَى الْحَقّ الّذِي تَرَى لَهُ أَنّهُ يَحْمِلُ وَتَخْرُجَ الْمَخْرَجَ الّذِي يَلِينُ عَلَى مَسَامِعِهِ وَتُكَلّمَهُ مِنَ الْكَلَامِ بِمَا يُطِيقُهُ عَقْلُهُ فَإِنّ لِكُلّ عَقْلٍ طَبَقَةً مِنَ الْكَلَامِ يَعْرِفُهُ وَيَجْتَنِبُهُ وَلْيَكُنْ مَذْهَبُكَ الرّحْمَةَ وَلا قُوّةَ إِلّا بِاللّهِ”.
ولد واضع هذه الوثيقة واسمها “رسالة الحقوق”، الإمام زين العابدين، علي بن الحسين بن عليّ عليهم السلام، في الخامس من شهر شعبان سنة 38 هجرية، وثيقة بديعة بلورَ فيها جملةً من حقوق الإنسان على نفسه وبينه وبين النّاس وربه ومنها حق النّاصِح والمستنصِح، كم نحن اليوم بحاجة لها كما كنّا بالأمس وقيل عنها إنها “من المؤلّفاتِ المهمّة في دنيا الإسلام”!