
للمساجد حرمتها وقدسيتها، وهو أمرٌ لا جدال فيه، لأنها بيوت الله -عز وجل- تفضل علينا بها لنقصدها ونتعبده فيها فرادى وجماعات وبحقوق متساوية، فلا أفضلية لأحد دون آخر، ولا أمر سوى لمن أُمِّر عليها شرعًا وعرفًا أو توظيفًا.
وبلا شك أن الغرض الأول منها هو الصلاة، وبالأخص صلاة الجماعة. وكم هو محرج ومخجل حين يغيب إمام الجماعة الأساسي وترى من حولك كل واحد يصلي مفردًا بين قائم وراكع وساجد، وقادم وخارج، ومتحدث ومتعبد، وأصوات تختلط ببعضها في صورة نتمنى أن تزول، أو أن يعي الجميع حرمة المكان ويلتزموا بما يجب الالتزام به، وإن كان هذا لا يكفي، لأنه بغياب الإمام المعتمد للمسجد يحدث أمران، الأول هو انفراط عقد الجماعة كما هو حاصل في جميع مساجدنا مع الأسف دون أن يغطي مكانه أحد سواء كان إمامًا آخر من رجال الدين، أو من أحد المؤمنين الذين تجتمع فيهم شروط إمامة الناس في الصلاة، وهي من البساطة والسهولة لأنها لا بد أن تجتمع في الوفرة من المؤمنين الحاضرين للصلاة -إن كنا نريد ذلك-.
ولكن السؤال هنا: هل المسجد للصلاة فقط؟ أو ليس هناك عبادات أخرى من أفعال وأقوال مقبولة ومحروزة الثواب؟ وهو غير ما ذكرناه آنفًا مما لا يليق بهذا المكان المقدس.
قبل الإجابة عن التساؤل نسجل هنا استغرابنا من حال بعض المؤمنين وهم قلة -بلا شك- حين تتملكهم العفوية وربما بحسن نية ويضيقون ذرعًا ببعض المصلين وتصرفاتهم بحكم مسبق، دون حكمة وروية، ويشغلون أنفسهم بالآخرين وانتقادهم، يحولقوا ويسترجعوا ويبدون التذمر، أو يتسرعوا بالتوبيخ علانية إما لشخص بعينه أو ربما لأكثر لمجرد أنهم يسمعون أصواتًا أو بضعة أشخاص يتحدثون، متذرعين بأسباب ربما هم أنفسهم يجهلون حكم الشرع فيها، وهو من يلهيهم عما جاؤوا من أجله سواء للصلاة وما قبلها وبعدها، وبالتالي يقعون في نفس الخطأ الذي يظنون أن إخوانهم في المسجد قد وقعوا فيه.
نحن هنا نتسائل: من الذي أوكل المهمة لهذا أو ذاك كي يتصدى لهذا الأمر؟ وهل هذا يدخل في توصيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
أو ليس هذا التصرف مدعاة لنفور الناس من الحضور للمسجد؟ ثم من الذي يقول أن كل ما يقوم به الناس في المساجد خلاف الصلاة هو مما يهتك حرمتها؟ هل الصلاة هي العبادة الوحيدة فقط، أم هناك عبادات أخرى مثل النوافل وتلاوة كتاب الله كما ذكرنا؟
أو ليست العبادة أيضًا هي الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، وفعل الحسن واجتناب القبيح من قول وفعل؟
العبادة ليست فقط في الشعائر الواجبة التي يقوم بها العباد لرب العباد جل شأنه، والمسجد هو من الأماكن المتاحة التي تتوفر فيها العبادات بوفرة، لا سيما حين يلتقي فيها الناس، فالسلام على المؤمنين عبادة والسؤال عن أحوالهم عبادة، وإبداء المسرة بهم والبشاشة في وجوههم عبادة.
ما الحرج الشرعي والمنافي لقدسية المسجد حين يرحب المؤمن بأخيه المؤمنٍ ويسأل عن صحته وأحواله خاصة بعد مرضٍ، أو التحمد له بالسلامة بعد سفر، أو ربما يدعوه لزواج، أو غير ذلك من المظاهر التي اعتادها المؤمنون بما لا يخدش حرمة المسجد ولا يسبب الضيق لأحد، وكل ذلك في اللحظات التي تسبق الصلاة؟ أو ليس ذلك أفضل من الانشغال بالمؤمنين وتصرفاتهم والتي لا يدري ذلك الآخر عنها لدرجة أن بعضهم يتأزم لمجرد رؤيته اثنين أو ثلاثة يتحدثون للحظات، ويحسب أنه بذلك يحسن صنعًا، رزقه الله تعالى على نياته.
الحكمة والروية وحسن الظن مطلب، ولا ينبغي الاجتهاد والتسرع والحكم بظواهر الأمور، والتصرف بطريقة مستفزة ومنفرة حتى وإن كان الأمر يستدعي، وأن يترك الأمر لأصحاب الأمر في المسجد سواء إمام الجماعة أو القائم على المسجد كلٌ حسب مسؤوليته.
وقفة:
بعض البشر ينشغلون بما يعود على مجتمعهم بالمنفعة، والبعض ينشغل معهم ولكن لتحقيق ما تصبو له أنفسهم.. والفرق شاسع.