ورد عن أمير المؤمنين (ع): لا تؤيس مذنبًا) (تحف العقول ص 100).
الخشية من الله تعالى هي أساس العقل ومعيار التوافق مع الفطرة السليمة والبصيرة الواضحة، والتي تتفحص بواسطة هذه الجوارح -وخصوصًا العين- ما يتلألأ من حولها من آيات الله تعالى المبثوثة في الكون؛ ليقر بعدها بحكمة وقدرة الخالق العظيم فيسير وفق المنهج التكاملي المرسوم له في هذه الحياة باكتساب الخيرات والأعمال الصالحة وتجنب ما يسخط الباري من مقارفة المنكرات والسيئات، وهذا التوجيه الإلهي لا يتضمن سوى المصلحة للعبد وما يعلي شأنه ويحقق وجوده وكرامته، ولم يترك الإنسان من محطات اختبار مع كل نفس يتنفسه ليبتلى في خطواته، وقد يخفق أحيانًا في مقاومة الوسوسة الشيطانية ويتبع هواه حتى يسقط في حفرة المكر ويرتكب المعصية، ولكن هذا لا يعني نهاية الطريق إذ الرحمة الإلهية تتلقفه وتنتشله وتساعده على النهضة مجددًا متى ما امتلك إرادة وعزيمة، وخير معين للعودة الرشيدة لطريق الخير هو الأخ الناصح والصديق الوفي الذي لا يتخلى عنه في الأوقات الصعبة، بل يعمل جاهدًا على إنقاذه من الاسترسال في المعاصي وصولًا لاستحقاق العقوبة الإلهية المتمثلة في نار جهنم، فهل هناك صاحب وفي يراقب تسافل صاحبه في وحل المساوئ الأخلاقية ولا يمد له يد العون والإنقاذ؟!
ما الموقف الذي ينبغي اتخاذه تجاه من تكتشف أنه من العاكفين على المعصية ممن تربطك به علاقة أخوة؟
الأخوة الصادقة تعني تبادلًا بين أفراد المجتمع في المحبة والمواساة وتخفيف الآلام والمساعدة بما أمكن، وهذا يعني تخلصًا من أسر الأنانية وأغلالها والبحث عن المصالح الخاصة وانغلاقًا على الذات وحاجاتها، فينفتح المرء على أحوال الناس من حوله فيحاول -بقدر الإمكان- التخفيف من آلامهم المتعلقة بعلاقتهم بالله -عز وجل- وانزلاقهم في وحل المنكرات أو متاعبهم الناجمة عن مصائب الحياة ومصاعبها والضنك النفسي الناشىء عن الأزمات التي يمر بها، إنها روح المواساة والوقفة المساندة حتى يتجاوز المحنة التي تعصف بجوانحه وتسلبه لذة العيش والإحساس باللحظات الجميلة، وأما من يترك صاحبه في وسط لجج الحياة لينجو بنفسه ويتركه للغرق مع قدرته على مساعدته في النجاة، فهو شخص لئيم وانتهازي وخائن لحق الأخوة وهذا انسلاخ من إنسانيته، فبئس الصاحب الذي متى ما شعر بسقوط صاحبه قبض يده عن مساعدته للنهوض مجددًا وتخلى عنه.
وأمير المؤمنين (ع) يؤكد على حقوق الأخوة والمساعدة لمن وقع في فخاخ الشيطان والأهواء، فبدلًا من مساعدته للرجوع إلى طريق الحق والفضيلة والتخلص من سموم المعاصي، تراه ينسحب سريعًا مخلفًا له في معمعة المصيبة وناسيًا لتلك الصحبة التي جمعتهم، فأي صحبة تلك التي جمعتهم في ساعة الرخاء وفي الشدة يفارقه ويهجره وكأن شيئًا لم يكن، فالصاحب الحقيقي يقف مع صاحبه في وقت المصائب والمآسي التي تلفه، محاولًا تقديم المساندة له حتى يخرج من عنق الزجاجة ويتجاوز تلك المرحلة الصعبة ويبدأ صفحة جديدة وقد استفاد منها الدروس، وهذا لا يعني السكوت عن أخطائه أو التشجيع له بالاستمرار في غيه، ولكنها مساندة مقرونة بتوضيح الحقائق وتبصيره بمواطن الزلل التي وقع فيها ومساندته لتجنب عوامل الوقوع في الخطيئة، فهذا التواصي بالحق والفضيلة يشع نورًا في المحيط الاجتماعي إذ يشعر الفرد بأنه ليس وحيدًا في وسط هذه المصاعب وهناك من يهرع لإسعافه لو سقط في إحدى حفر الذنوب.
التخلي عن الشخص المذنب وهو يمر بأزمة حقيقية لا تتعلق فقط بصحته أو ماله وإنما بانغماسه في الشهوات وإصابته بفيروس المعاصي، ويحتاج إلى من يطببه ويقف بجانبه حتى يستر عافيته المعنوية ويتخلص تمامًا من تلك الأزمة ويتماثل للشفاء، وهذا من أهم موارد المواساة والأمر بالمعروف وذلك من خلال فتح نافذة الأمل بالرجوع إلى الله تعالى والإقلاع عن الخطايا.
ولذا فأمير المؤمنين (ع) يحذر من باب شيطاني وخدعة كبيرة يقع فيها الإنسان الصالح، حيث يستعظم فعل المعصية من صاحبه وبدلًا من نصحه بالرفق، يأخذه بأسلوب العنف الكلامي والتيئيس من رحمة الله تعالى وتضييق مواردها ويصورها بعدم شمولها له، بل ويتجه نحو مقاطعته وتجنب أي شكل من أشكال التواصل معه، وهذا التخاذل عن صاحبه والانسحاب عنه في وقت هو بأمس الحاجة للمساعدة والإرشاد، وما يدري هذا الصاحب أن أفضل القربات إلى الله تعالى إعادة هذا المذنب إلى جادة الطريق وإرجاعه لساحة الطائعين، يقدم أفضل خدمة له و يسهم في تراجعه عن غيه وفساده، ويكون هو صاحب فضل بهذه الوقفة الصادقة حيث استنقذه من براثن الشيطان والوقوع ضحية للأهواء والشهوات المتفلتة.