سيرة طالب (٤٦)

اعتادت نساء طلبة العلم أن تحتفل بمولد السيدة فاطمة الزهراء (ع) في منزلنا الواسع، قياسًا لبيوت الطلبة، كما اعتادت أن تحصل على العشاء والهدايا للجميع بلا استثناء.

ومرّت سنوات خُضر، ثم سنة واحدة عجاف؛ بسبب انقطاع الشهرية، كما انقطعت المعينات من العائلة لقلّة المسافرين، وقد اقتربت ذكرى المولد الشريف، ولا أملك شيئًا من المال، سوى الفتات، فقلت لزوجتي: الظاهر أنّ هذه السنة لن نستطيع الاحتفال؛ للضعف المادي.
فقالت لي: توكل على الله، لا بُدّ أنّ الله يدبّر أمرنا.
قلت: توكلنا على الله، وأنا على يقين بأنّ الله هو مدبّر الأمور، واليقين هو سبب المدد الإلهي، وإنّ الشك هو الذي يمنع عطاء الله، توكّلنا على الله، سنعلن أنّ الاحتفال في مجلسنا.

ريحٌ طيّبة
وأعلنا في الحوزات النسائية، ونحن على يقين بأنّ طرق الله لا حدود لها، وفي الوقت ذاته ندعو الله للإسراع في هذا المدد لخوفنا، مع العلم أنّ الله سوف يهيّئ أمرنا حتما، كما هيأ لنا في ما مضى.

في تلك الأثناء زارني أحد الطلبة الخيّرين، وسألني بصراحة:
هل تمانع أن أصلح ما بينك وبين إدارة الحوزة؟
قلت: لا مانع، فبأيّ شكل أصلح بيننا وبينهم، فإنّ المشكلة منها، لا منّي.
قال: أنا تحدّثت مع المدير، ولا مانع عنده، انتظر حتى نتفق في يوم محدّد فتلتقي معهم، وتنتهي المشكلة.

وبعد يومين أو ثلاثة زارني الطالب المصلح مرة أخرى وقال: هذا ظرف من الإدارة فيه شهرية هذا الشهر، وإنّ المدير سوف يستمرّ شهرياً وسيوصلها لك.

كرمٌ لا محدود
في اليوم التالي من وصول الشهرية، زارني طالب آخر فقال: هذا الظرف من الإدارة إعانة لك؛ لانقطاع الشهرية مدّة سبعة أو ثمانية أشهر.
فرحنا فرحًا عظيمًا؛ لأنّ هذه العناية من السماء، وذهبنا إلى الأسواق لنشتريَ الهدايا ومستلزماتها، مع توصيل العشاء.

والغريب في الأمر أنّ الراتب في هذا الشهر وصلنا مضاعفًا، وأما الشهر الذي بعده انقطع أيضًا كسابقه، إلّا هذا الشهر المبارك للاحتفاء بمولد السيدة فاطمة الزهراء (ع).

عن بكرة أبيها!
إذا كنت تريد من قراءتك هذه فائدة معلومة، فاترك القراءة؛ لأنّ ما سأحكيه هنا قصة ظريفة، لا غير، ولكنها طبعت في ذاكرتنا، وهيهات يطويها النسيان!.

في يوم من أيام الدراسة في قم قرّرت دعوة الأخ العراقي *أبا أحمد الركابي*، وهو من أصدقائي المخلصين، إلى مائدة إفطار في شهر رمضان المبارك.

فتواصلت معه وأخبرته بالدعوة، وفي نفس يوم الإفطار طُرق الباب قبيل المغرب من قبل أحد أصدقائنا، وكان بدين الجسم، ورأى أننا نتجهّز لوضع الإفطار فطلب أن يشاركنا المائدة، وقد رحبنا به، ولكنه أراد الخروج من البيت لبضع دقائق، فخرج وطرق الباب عائدًا ففتحت له، وإذ معه رجلان لست أعرفهما، وكانا أيضًا ممن أوتيا بسطة في الجسم، فتأكدت حينها أنّ هذا الصديق البدين كان حريصًا على أن يعمل بواحدٍ من مستحبّات الأكل، وهو الأكل مع الجماعة، فثلاثة أفراد غير خمسة!.

أدخلتهم جميعًا إلى المجلس، وأوصيت زوجتي ألّا تترك صنفًا متوفرًا من الطعام متوفرًا لدينا، إلّا وفرشت به أطباق سفرة الإفطار.

وهكذا كان، فقد أُكِلَت جميع الأطباق، ما عدا طاسة حساء (شوربة) بقيت من باب الحياء، فطلبت منهم أن يكسروا حياء الطبق الأخير، ويتناولوها.

وبالفعل قضيَ على كلّ ذرّة طعام كانت في تلك الأطباق، وحملتها واحدًا فوق الآخر دفعة واحدة وأدخلتهم إلى المطبخ، مسرورًا أن قام ضيوفي بواجبهم خير قيام، إذ لم يتركوا شيئًا من النِّعمة قد يكون مصيرها إلى القمامة، وهذا باب من أبواب الشكر العملي للنعمة، وفي الوقت نفسه سهّلوا أمر تنظيف الصحون على زوجتي التي استغرقت في نوبة ضحك واستغراب من هذا المشهد الذي أستدعي تفاصيله كلّما التقيت بأبي أحمد الركابي.



error: المحتوي محمي