من الناس من لا ينشغل طوال فترة حياته بنفسه كما ينشغل بالآخرين ومعهم، ليس لأنه لا يهتم بذاته وشخصه، بل على العكس من ذلك تمامًا، وهو أنه يجد ذلك فاعلًا ومتفاعلًا بحرص واهتمام بالانشغال والاهتمام بالناس، الأمر الذي سوف ينعكس بطبيعته عليه وعلى أمثاله بقصد أو دون قصد.
ربما يحدث ألا يحقق المرء كل ما يصبو إليه شخصيًا من خلال الانشغال بالمحيطين حوله، ولكن ذلك لن يخلو من تحقيق الرضا والشعور بالسعادة والمحبة إذا ما أثمرت جهوده من الآخر.
انشغال الإنسان بنفسه لا يحقق له الرضا التام إذا لم يكن لديه رؤيا ومشروع، ومخرجات تسهم في المنفعة العامة أيًا كانت، وأما إذا كان هذا الانشغال ذاتيًا فقط فإنه يدخل في خانة الأنانية أو الانزواء والتقوقع مهما تنوع، وهو عديم الفائدة التي تنعكس إيجابيًا عليه وعلى غيره وتبقيه في ذاكرة الزمان عرفانًا وتقديرًا وشكورًا.
الإنسان بطبيعته خلق ليخالط البشر وينخرط بينهم ويتفاعل معهم، ويقدم ما لديه من مكتسبات متنوعة، يشارك بها غيره ومع ما يمتلكون ويتقنون، وهكذا حتى يكون للحياة معنى، وللوجود فيها روحٌ أجمل، رغم إيماننا بأن القدرة على الاختلاط بالناس والتعامل مع مختلف الشرائع تحمل عبئًا يحتاج إلى قدرة كبيرة لحمله وتحمله.
إن أولى التفاعلات هنا هي مع الأسرة.. والأرحام، ويأتي بعدها الكثير تباعًا، مثل الصداقات والعلاقات المجتمعية والوظيفية وصحبة الأسفار والتزاوج والتزاور، ومشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم، وبين كل ذلك أن يكون رهن مجتمعه المحيط بصدق، وتحت طوعه، ولخدمته بما يستطيع تقديمه خاصة إن كان صاحب مقدرة وكفاءة وطاقة وملكات خاصة ينتفع منها غيره، وإلا ما الفائدة من محروز مكنوز لا ينفع صاحبه ولا ينتفع به غيره؟!.
يستطيع المرء أن يعيش بعيدًا منزويًا، أو قريبًا مسالمًا، ويكسب الاحترام والتقدير، ولكن ما الفائدة المرجوة هنا؟ وما العائد الذي سوف يجنيه هو أو مجتمعه؟ لا شيء، لا شيء أبدًا سوى السلام وعليكم السلام.
وفرق بينه وبين ذلك الذي تقدم بثقة ونخوة وانخرط مع الناس وقدم نفسه تقديمًا يليق بإنسانيته وقدراته وتفاعل ونذر نفسه من أجل مجتمعه الذي هو جزء من وطنه الكبير وفي صورة إيثارية لا تتأتى لجميع بني البشر.
صحيحٌ أنه سوف يصطدم بالمثبطين أو العدوانيين، أو أولئك الذين يضعون العراقيل أمامه ويحاولون إسقاطه لا لسبب سوى الغيرة والحقد والحسد، هذه الصفات التي تفضح بعض من أولئك الذين تكاد تقرأ ما يسرون في أنفسهم على وجوههم وهم يقولون لماذا هذا أو هؤلاء وليس نحن؟
ومن أولئك من يمدحون ويصفقون ويرفعون المعنويات، ولا ينكر ذلك أبدًا، فمن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، وهنا يجب التنويه على أن ليس كل مدح هو مدح محمود، بل ربما يكون مذمومًا وممجوجًا، إذا ما أتى فقط وفقط للمدح ذاته دون تمحيص وتدقيق في النتائج، فيكون هذا المدح أنكى من القدح، لأنه يعمي البصر والبصيرة، ويسبب الغفلة عن الأخطاء، التي ربما تتراكم وتؤدي للسقوط لا محالة.
إنه هذا تمامًا عكس الحالة الأولى ليكون المتمثلة في المتربصين والذين يراقبون ويتصيدون الأخطاء والزلات لينقضوا وينتقدوا وينتقصوا من غيرهم بغية إسقاطهم، وهذا ما يحققه العكس تمامًا من المدح الزائد وفي غير محله وبمناسبة ودون مناسبة. فخير للمرء أن يعرف عيوبه ومواطن الخلل من الإنسان الناصح الصادق والذي يثني على الصواب، ويوضح الخطأ ومكامن الضعف بشفافية واهتمام وحرص ومحبة.
ما نراه هنا أخيرًا هو ألا يكون المدح مصدر فرح وابتهاج واعتداد بالنفس، وفي المقابل ألا يكون الذم والانتقاد مثبطًا وعنصرًا للتراجع، يجب أن يكون الاثنان دافعين للإمام بعزيمة وثبات، وضوءًا ينير الدرب، ويجدد الأمل لتحقيق ما يصبو له المرء ويرسم للوصول إليه، ولهذا على المرء أن يغنم من النقيضين حظه.
وقفة:
للصداقة رائحةٌ ذكية لا يميزها إلا الأوفياء.. وإن شئت فقل للوفاء رائحة ذكية لا يميزها إلا الأصدقاء.