هل فكرتم يومًا أن لمحادثاتكم الإلكترونية أماكن تشبه في أشكالها تلك الأماكن التي نسكنها، أو نزورها أو حتى ننفر من دخولها؟!
في فترة مرضي وعزلي، أرسلت لي أمي تسجيلًا صوتيًا تخبرني فيه بأنها تشتاق إليّ، تفتقد يومياتي، تشعر بأن يومها غير مكتمل وأنا غائبة عن ممارسة روتيني أمامها..
كلما استمعت لذلك التسجيل أشعر بأنني أدخل ضريحًا مقدسًا، أستشعر فيه أن دعائي وقتها مستجاب.
لواحدة من أخواتي محادثة تشبه “صالة بيتنا”، تذكرني بليالي سهرنا ونحن نشاهد التلفاز، مندمجتين مع مسلسل تغيب الكثير من حواراته بين حوارنا الخاص، ونحن نسترجع شريط يومنا ونترك تعليقاتنا على أحداث ذلك الشريط.
محادثة أخرى لأخت أخرى، تشبه مكتبها المدرسي.. أشعر عند دخولي لها أنه لا بد لي أن أقول كل ما يدور في رأسي دفعة واحدة، ولا يتوجب عليّ أن أسمع ردودًا جاحظية كـ(سوالفي) معها، فأنا أعرف أن وقت المدرسات مكبل بصوت الجرس، ذلك الذي ينبئهن بانتهاء الوقت قبل بدايته..
أما أختي الثالثة، فكأن محادثتها، منزلها الصغير البعيد عنا، فيه الكثير من السؤال عن الأحوال، والكثير من صور أطفالها، وروابط لاختياراتها من المشتريات لبيتها ولصغارها..
ويبدو أن محادثة أصغر أخواتي قريبة جدًا من شكل غرفتها، لذلك عادة أنا لا أدخلها إلا للضرورة كغرفتها تمامًا، ليس لأن الحديث بيننا مبتور، لا.. لكن لأن أحاديثنا عادةً تكون مباشرةً دون الحاجة لتدخل المراسيل الإلكترونية..
أتوه أنا في أشكال بعض المحادثات، فمحادثة صديقة ما، تشبه المكان الطاهر، ذلك الذي تشعر بأنه يتوجب عليك قبل دخوله أن تكون على وضوء قلبي، أن تخلع نعليك وأنت تطأ أرضه فأنت في وادٍ مقدس، لذلك لا نميمة ولا غيبة وأنت تمشي في أرجاء محادثتها، وإن حدث وغلبك إبليسك وأجرمت هناك، فإنك ستحاول أن تتطهر من ذنبك قبل الخروج..
واحدة أخرى من صديقاتي، لها محادثة كغرفة الشاي.. ترتشف الحديث معها وكأنك تتناول قطعة كعك صغيرة بين حكاية وأخرى..
لدينا في هواتفنا الكثير من المحادثات التي تشبه (البيت العود).. مليئة بأصوات العائلة وصخبهم، لا يعنيك كل ما يقال هناك لكنك تجد نفسك مجبرًا بحب أن تكون وسط ذلك البيت..
محادثات أخرى تشبه غرف الاجتماع، عليك أن تدس نكاتك وتعليقاتك الساخرة أسفل (دواسة الباب) قبل أن تدخل تلك المحادثة، وأنت تلبس (بدلتك) الرسمية وترتدي نظارتك التي لا ترتديها في أرض الواقع، تفعل كل ذلك لتبدو جادًا جدًا وأنت تناقش مهام تقبع فوق كتفيك، وحتى تكون مطاعًا عليك ألا تبتسم وأنت في تلك الغرفة..
هناك محادثة تشبه اجتماع الأصدقاء في بيت أحدهم، هذا البيت يتغير بتغير من يدير دفة الحديث، فأنت الآن في ضيافة (ع) وبعد لحظات أنت ضيف عند (م) وبعدها تجد نفسك مسيِّرًا عند (ز)، رغم أنك لم تبرح مكانك!
وهناك محادثة كبيت مهجور، تشعر بأن نفسك يضيق وأنت فيها، لا رغبة لك في أن تكمل التجوال وسط كلماتها، صدى الأصوات داخلها مزعج، لذلك أنت لا تقربها إلا إن كنت مضطرًا لذلك.
ووسط جهازك تجد الكثير من خزائن عرض السلع المستهلكة، وكأن أصحابها باعة اعتادوا استيراد الرخيص من السلع المكررة، تلك التي لا تجد لها ذوقًا خاصًا يحدد هوية صاحبها، فناجين تزينها ورود وعبارات تهنئة وصباحيات ومساءات لا تعبر عن أي مشاعر، هي فقط تكرار ممل.
لا أعرف لماذا أتخيل أنني حين أفتح برنامج المحادثات وكأني أفتح خارطة الطرقات، كأنني أتخيل محادثة أحدهم في اليمين وأخرى في الشمال، وأخرى بين بيتين!
هل تخيلتم يومًا أن لمحادثتكم مع الآخرين شكلًا يشبهكم، نعم يشبهكم، لكنه يشبهكم كصورتكم داخلهم لذلك لا يمكنكم أن تتنبؤوا إن كانت محادثاتكم عند أحدهم حدائق مزهرة أو خربة يحاول هجرها، أو بيتًا ملقًى على جوانب قريتكم يدخله زائر بنفسٍ لا تحمل تجاهكم حبًا ولا بغضًا إنه فقط زائر اعتيادي كجارات القرية..