هُناك أفرادٌ مِن ثُلّةٍ مُميّزةٍ مِن الشخُوص الغُرباء، الذين تَراهُم وتُقابلُهم لأّوّلِ مَرّةٍ؛ وتَشعُر بدِفءِ قُربهِم، وسُكُون مَعيّتهم، بأَنّ خَيطًا خَفيًا رَفٍيعًا، يربُطك بِهم، رَغم قِصر مُدّة اللّقاء الجاذِب، وقَبول لَمسة اللّقيا الخاطِفة- بقَضّها وقَضِيضِها- بمِزاجٍ رَائقٍ، واستحسانٍ شَائقٍ، والتي رُبّما اهْتزّت وتَفتّقت لها جلّ سكون، ورَبَاطة جَأش، في مُتّسع أساريرك المُسترخِية المُتيقّظة… ورُبّمَا لَا يَتوافَق مَرأى قَبول الطلّتَين الألمعِيتَين: سَحنة المَظهرِ اللّافِت، وجَذب الجَوهرِ الأخّاذ، في وقتٍ واحدٍ… حَيث تَتجلّى نَزعَة القرار الحاسِم؛ وتَتصدّر عُملتها السالِكة؛ وبالتالي تُحَدِّد وُضُوحَ مَعالِمها حِينئذٍ، نَهضةُ استعداد؛ ونَفرةُ “فلترة” أرهف وأدقّ مَجاسّ المُستقبلات الناقلة الحِسّية، للانطباعات الأَوليّة لأحد الطرفين المُتلاقَيين، أو كِليهما، على حَدٍ سَواء؛ ولَا أكاد أنسَى بِيئةَ اللقاءِ الدافئة، بما تَحوِيه أجواؤها الجّاذِبة، مِن عَابر هُنيهات؛ وظَاهر مُؤثّراتٍ إيجابيةٍ مُعزّزَةٍ مُوثّقةٍ، بزخَمٍ وافرٍ مَن وَمِيضِ ذَخِيرةٍ حَيّةٍ، مِن “فَلاشات” لقطةِ القَبول، واحتضانِ مُسانَدة؛ واحتواء مُؤازِرةٍ، مُتماثِلةٍ، مُزدانةٍ بصَفاءِ الأُنسِ؛ ومُتوّجةٍ، بأَسمَى أكاليل لَحظاتِ الاستحسان الظافِرة…!
ومِمّا أستظهره جَيدًا، أنّه في زِحام مُنتصفِ السبعينِيات مِن القرن الميلادِي المُنصرِم؛ وَقتها كُنتُ أعمل مُدرّسًا للمرحَلة الابتدائية، بُعيد التخرّج مِن مَعهدِ إعدادِ المُعلمين، بمدِينة الدمّام، بقرية نائية تسمى “اللّهابة” التابعة لتعليم المنطقة الشرقية؛ وهي على أطرافِ صَحراء الصمّان، المُحاذية لامتداد صحراء الدّهناء العُظمى… وفي يَومٍ كْنت مُتوجّهًا إلى القرية ذاتِها، في سِكّةِ مَسَار طريقها الوعِرة ، لأوّل مَرة، حيث انطلقت صيفٍا، مِن حَي البطحاء بجنوب الرياض العاصمة، بعد العصر، دَاخِل المقصُورة الخلفية لسيارة “الونيت- داتسن” ذات الغمارة الواحدة، مُصطحبًا عَفشِي الخاص المُكوّن مِن: سَرير حَديدِي، ومَرتبة، وحَقيبة مَلابِس… وانطلقت السيارة في طَريقِها الوعِرة، وكان يُرافقني ثلاثةٌ مِن الركّاب “البدو” داخل الصندوق الخلفي؛ لنصلَ إلى القرية المذكُورة، في ظهيرة اليوم التالي… وقد قام أحدُهم بمدّ رِجلية فوق مَرتبتي المَطوية، وقد سَاءني التصرّف؛ وبعد أن عَلِمت بذلك قمت، على الفور، بإزاحَة رِجليه عَن مَرتبتي “بنرفزة” وبَعد سَاعَتين مِن رِحلة المَسِير الطويلة، اضطرّ السائق إلى التوقّف، والإشارة لنا بموعدِ النوم، بَعد أن؛ أضنَاه التعب، وأعيته ظُلمةُ أوّل اللّيل، لِينامَ الجَميع فوق رِمالِ الصحراء البارِدة نِسبِيًا، وقَد تَغطّى كلّ واحدٍ مِنا بلِحافَه الخاص؛ ليغُطّ في نومٍ عَميقٍ… وقُربَ الفجر البارِد، صَحوت لِهُنيهةٍ، وإذا بالشخص الذي أبديتُ لهُ مشاعر النرفَزَة سَابقًا، يَسدِل عَليَّ أطراف لِحافِي بيدٍ حَانِية؛ لأَغطّ بعدها في غَفوةِ نومٍ عَميقٍ ثانيةً، بَعد أنْ أشعرني رَفيق الدرب الطيّب؛ وأحَاطَني بنَزعَةِ تَجلِيةِ لَمسةٍ حَانيةٍ، لَم أتوقّع إسداءها مِنه، بطِيبِ أَريحيةٍ، وصَفاءِ نِيةٍ، جُملَةً وتَفصِيلًا…!
هَذا، وبَعدَ ثلاثِ سَنواتٍ مِن تخرّجي مِن مَعهد إعداد المُعلمين؛ وتفرغٍ تامٍ لدِراسَةٍ سنةٍ دراسية إعدادية تأهِيليةٍ بالمعهد البريطاني بالرياض، قبل الابتعاث إلى أمريكا، لدراسة برنامج إعداد مُعلمي اللغة الإنجليزية المُكثّف، للمرحلة المتوسّطة، لصَالح وَزارة المَعارِف الجليلة آنذاك، وقد عُيِنْت للدراسة في جَامِعة “نورث تَكْسَاس” لاستهلال برنامج الدراسَة المرسُوم… وعَودًا حَميدًا إلى عَدسةِ الانبهار بفلاشات لَمسةِ حانيةٍ جَديدةٍ، احتضَنتني بعَفوية تلقائية يدٌ حنونٌ، وقد أسداها لي أستاذٌ أمريكيٌ مَرمِوقٌ حَانٍ، حَيث حَدث بَيني وبين مُؤجّر الوِحدة السكنِية “اليهودي” خِلاف على إعادة مَبلغِ التأمِين، “المئة دولارٍ” المَدفُوع ابتداءً، مَع توقيع العَقد، بعد أنْ سَلّمته وِحدتَه السكنية، كَما تَسلّمتها، بَعد مُرورِ عامٍ، وقد قام بتفقّدها بنفسه بدقة، كَعادة المؤجرين آنذاك، قُبيل تَسلم السكن وإخلائه؛ لنيّته المُبيّتة لِسلْبِ المئة دُولار قَسرًا؛ وقد رَاجعته شَخصِيًا- في مَكتبه- لأكثرَ مِن مَرةٍ، دُون جَدوى تُذكر؛ ليبدأ مُسلسلَ المُماطَلة الساحِبة، أسبوعًا بعد أسبوعٍ، مِن جَانِبه… وبَعدَها استشَرت أُستاذي المُحاضر الأمريكي المَرمُوق… وقد غَمرنِي بالنصيحة؛ وأَشار عَليَّ- على الفور- برَفع شَكوى إلى المَحكمة، ضِدّ المؤجّر… وإذا به يَجلس بجانِبي أمام القاضي…!
وإِذا بالتاريخ يُعيد نفسِه ثانيةً، بَعدمَا قَررت السفرَ ثانيةً إلى أمريكا لإكمال دِراسَتِي هُناك، وفي الجامعة السابقة نَفسِها، وذلك في غُرّة الثلث الأَول مِن بِداية عَقدِ الثمانينيات، مِن القرن المِيلادي الماضٍي… وقُبيل السفر، اتصلت بالأستاذ الأمريكي المُحاضِر، والمُنسّق السابق لبرنامَج اللغة الإنجليزية، في مَنزله، على هَاتفه الثابت، بَعد مُضِي سِتّةِ أعوامٍ، على تَخرّجي مِن بَرنامج ابتعاثي السابق، لصالِح بَرنامَج وزارة المعارف… وإذا به يَسألني عَن مَوعِد ورَقم رِحلة القُدوم إلى مَطار آخر مَحطةٍ جَوِيةٍ؛ لَيحضر أصَالةً، إلى مَطارِ “دَلَس-فُورت وُرث” الدولي، على بُعد خمسين كيلًا، من منزله، بسيارته “البُكس” ويُساعِدني على حَمل عَفشي بتواضعٍ؛ ويَأخذني في أحضان ضِيافتِه الفاخِرة، بمنزلِه المُتواضِع، بمدينة “دنتون” وبعد أنْ تناوَلنا وَجبة الغداء المُعدّة المُميّزة، واحتسَينا القهوة مَعًا، قُمت بإهدائه سَاعةَ يدٍ فاخِرةٍ، ومِثل ذلك، إلى زوجته عِقدًا ذَهبيًا… وعلى رأي المثل الشعبي الشائع عِندنا: ( مَا يُخدَمُ بَخِيلٌ)… وبعد إتمام لَمسةٍ التّرحَاب الأَصِيل؛ وإكمال مَراسِيم الضيافة المَشهودَة، قام المُضَيّف الشّهم بإركاب حَقائبي الشخصِية إلى سَيارتة الخاصة؛ واصطَحبني لاستئجار غُرفة بفندقٍ قريبٍ مِن الجامعة؛ ليحضر لي في اليوم التالي، ويأخذني إلى حَرم الجامعة؛ ويُوصِلني إلى غُرفة السكَن الطلّابي المَحجُوزة لِي مُسْبقًا… والأكثَر والأدهَى مِن ذلك كلَه، أنّه أفادنِي أصَالة، بَعدم التردّد في الحضور الشخصي المُباشر إلى مَكتبِه، في طلَبِ المُساعَدة اللّاحِقة، أيٍ كان نَوعها…!
هَذا، وبعدَ التحاقِي بالعمل مُدرسًا، للّغة الإنجليزية، بمدارس الهيأة الملكية، بمدينة الجبيل الصناعية- بَعد التخرج- وبُعيد مُنتصف عَقد الثمانينيات، مِن القرن الميلادي الفائت؛ وقد سَكنْت بمَرافق الهيأة الملكية لِمدّة خَمسُ عَشرةَ سَنةٍ مُتتالِية؛ وبعدَها، أكملت بِناء مَنزلي السكني الخاص، بمدينة القطيف، وصِرت أتنقّل يَوميًا، إلى مَقرّ عملي، على بُعد مِئتي كِيلًا، ذِهابًا وإيابْا، بمَعيةِ رَهطٍ مِن زُملائي المدرسين الأَفاضِل… وَقتها تشرّفت بتلقّي رَصيدِ لَمسةٍ رَابعةٍ حَانيةٍ، لا أكاد أنسى رَقيقَ أثرِها الأَخّوي الحاني، وناعِم عَطائها الأََريحِي السّخِي، مِن أحدِ زُملائي الأَعِزّاء بمقرّ عَملي، مَا حَيِيت… حَيثُ تَجسّدَت اللّمسة الحانِية الضافية، عِندمَا غَمرني شخصيًا- بطِيبِ أريحيتِه المَشهودَة- بالاستضافةِ الشاملةِ، بمُلحَق مَنزلِه، والمَبِيت عنده، لعددٍ مِن الليالي المُتفرّقة التي أجبرتنِي على البقاء بالجبيل الصناعية، للمشاركة في فَعّاليات ونَدوات إدارة تعليم الهيأة الملكية؛ ومَا قَصَدَه جَناب زميلي الحاني المؤنِس، هو تخفِيف مَشقّة مِشوار العودَة لَيلًا، ثمّ مشقّة حُضوري المبكّر صَباحًا في اليوم التالي إلى مَقر العمل … ولعلّ لَمسته الذاتية الحانية الرحيمة، آنذاك كانت لها قَصبَ السّبْقِ، في طِيب أخلاقِة السمحة، وأريحيّتِه المُعتادة الأصِيلة…!
وعلى وَجه العُموم، لا تَخلُو الحياة الحُلوة المُعاشَة مِن لَمساتٍ إنسانيةٍ حَانيةٍ، يَظلّ أثر ذِكراها؛ ويَبقى شَخصُ مُهْدِى رَيعِها، مَحفوظين في ناصِيةِ المُهْدَى إليه، يَذكُرها رَدَحًا في حُلم يَومِ يَقضتِه؛ وفي حلم ليلته؛ وفي صِدق نصّ حَديثه الماتع، بمتعة إعادة واسترجاع، فَائق ورَائق شَريط تلك اللحظات الجميلة، بعد الاستمتاع الجمّ بفائت الهُنيهَات المُميّزة، التي امتدّت في جَوف أعماقِ، أسفاطٍ حُبلى، مِن سَلسبِيلِ الصفاء، وجَوالِق مُماثلةٍ مِن نَمير النقاء؛ لتَتناثر جَواهرها دَومًا- بأصيلَ كَرمٍ، وَوفاءِ رُجولةٍ- جَزاء أجر الحَاني المُعْطِي؛ ويُزيدها في مِيزان أعماله، كَمًا طَردِيًا مُتنامِيًا، كمِثل أجرِ الصّدقات الجارِية النافِعة، في يومٍ لَا يَنفعُ فيه مَالٌ ولَا بَنُونَ، إلّا مَن أَتَى اللهَ بقلبٍ سَليمٍ… !