نتساءل أولاً، ما هي التوصيات اللازم على المستمع اتباعها في القراءات عموماً و محرم خصوصاً؟
وللجواب على ذلك لابد من معرفة مجموعة أمور ضرورية:
أولها: الغرض:-
وفيه أتعرض لأصله وحدوده وضوابطه كما يلي:
1- ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده:
بمعنى أن يتساءل الإنسان: ما هو غرضي من حضور هذه القراءات والاستماع للخطيب الفلاني والاجتماع مع الجماعة الفلانية ..؟
فالغرض هو نفْس نيّتك المنعقِدة عليها الحركة والمتولِّدة عنها أفعالك؛ فعن الإمام السجاد علیه الصلاة والسلام قال: «لا عمل إلا بِنِيّة»، وورَد: «لا دِين لمن لا نِيّة له».
وینبغي العلم بأن تحديد الغرض لیتحقق يحتاج للصدق مع النفس والتّفكّر جيّداً کي لا يشذ عن الذهن شيء من النوايا البَيْنيّة الخَفيّة؛ فإنّ كثيراً من الأغراض –صِحّيّة كانت أم عَليلة- تَضيع في لَوْثةِ النفْس وتَنغمس في جُبِّ البصيرة وتَغيب في ظُلمات القلب وبطون الذات، فلا تَنكشف للإنسان إلا بالتأمل الخالص والتدقيق العميق والتّدبُّر.
2- تشخيص الغرض:
فبعد أن حددتَ الغرض من حضورك مجالس القراءة ..؛ عليك أن تقيس غرضك من حيث الصّحّة والبطلان؛ هل هو غرضٌ محمودٌ عند العقلاء أم مذموم؟ وهل هو صحيحٌ شرعاً أم فاسد؟
فإنّ تحديد النِّيّة شيء، وتشخيصها شيءٌ آخر؛ فالتحديد رُتبةٌ أُولى للسالكِ بمثابة النِّطاق لنُشوء التشخيص، تماماً كما أنّ تسليط المصباح في الظُلْمة نحو جهةٍ ما مقدِّمة لرؤيتها وتحديد صفاتها.
وینبغي الالتفات إلى أن تشخیص الغرض لیتحقق يَحتاج للعلم الکافي لإبصار خصائصه، الكفيل بتمكين الإنسان مِن تعيين صحّته وفساده؛ فحیازة الغایات العُقلائية وإصابة المُرادات الشرعية كيف تحصل دون عِلم؟
إنّ الله عز وجل أَودَع في الإنسان العقل الذي يمَكِّنه –مبدئياً- من تشخيص الحُسن والقُبح والصواب والخطأ والعِلم بهما والعمل على طِبق الحَسن واجتناب القبيح، ثم الإنسان يَستكثِر من العِلم بالاستماع إلى الخطيب والعالِم والحضور لمجالس المعرفة والمطالَعات والمباحَثات ..؛ لذا یجد المكلَّفون أول فتوى توجَّه لهم في الرسائل العملیة هي: (يجب على کل مكلَّف إحراز العلم بالمسائل التي في مَعرض ابتلائه)؛ لماذا؟
لأنه لا يتمكَّن من امتثال أوامر الله تعالى وطاعته باجتناب نواهيه إلا بالعلم بماذا يريد، وإلا فإنّ طاعة أي شخصٍ لآخر لا تَحصل مع الجهل بما يريد، سيّما إذا كان الشخص المراد طاعته يَضع مراداته بحكمة متناهية ومعرفة عميقة غائبة عن فهْمِ الإنسان وإدراكه الأوّلي البسيط؛ لذا لا إيمان إلا بعِلمٍ وبفقه. وكلما كنتَ أهل فكرة متفكراً أكثر معتبِراً؛ كلما أصبحتَ أَبصَر وأَفهَم وأكثر تَعلُّماً، وكلما كنتَ عالماً أكثر عارفاً بأحكام الله سبحانه وأسرار النفس وخفايا الوجود وفنون الحياة ومسلَّطاً على التعامل مع ذلك؛ كلما كنتَ الأقدر على تحديد نواياك وتشخيص أغراضك والسير نحو النور والسلوك نحو الفلاح المادي والمعنوي؛ یقول سيد البُلَغاء بعد نبينا العظيم عليهما الصلاة والسلام:
«مَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ ومَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ ومَنْ فَهِمَ عَلِم» ، وروى الشیخ المعَظَّم الکليني عن محمّد بن یحیى عن أحمد بن محمد بن عیسى عن علي بن الحکم عن أبي عبد الله المؤمن عن جابر قال: دَخَلْتُ على أبي جعفرٍ علیه السلام فقال: «یا جابر، الآخرة دار قَرار والدنیا دار فَناءٍ وزَوال ولکنّ أهل الدنیا أهل غفلة وکأنّ المؤمنین هُم الفقهاء أهل فکرة وعبرة لم یصمّهم عن ذکر الله جَلّ اسمه ما سمعوا بآذانهم ولم یعْمِهم عن ذکر الله ما رأوا من الزینة بأعینهم ففازوا بثواب الآخرة کما فازوا بذلك العِلم»[نهج البلاغة/صبحي ص٥٠٦].