أنوار محطة شهر رجب

لهذا الشهر الكريم مكانته المتعددة الجهات والتي بملاحظتها يمكننا أن نعطيه شيئًا من استحقاقاته ومكانته الرفيعة، ففي زمن الجاهلية المنغمسة في شتى الانحرافات والضلالات كانت تولي هذا الشهر الكريم حرمة ومقامًا، وذلك أنهم يوقفون كل أشكال النزاعات والحروب فيه وكأنه قانون سن بينهم فلا ينتهكونه، ولنا وقفة من خلال هذا الجانب لفهم أهمية وفحوى البرنامج العبادي في هذا الشهر الكريم، والذي يتنوع ما بين الصوم والصلاة والدعاء والاستغفار مقترنًا بجوائز تبلغ درجة مضاعفة الحسنات، ولكن المهم في الأمر فهم المقصد والغاية من هذا البرنامج التدريبي والتهذيبي للنفس على ملازمة محراب الطاعة والتورع عن المحارم في محضر الرحمن في هذا الشهر الكريم، إذ الهدف الأسمى من العبادات بمختلف أشكالها اكتساب صفة التقوى والخشية من الله تعالى في كل موقف وخطوة وكلمة تصدر منا، فيهذب كل جوارحنا بلا استثناء من خلال مراقبة اللسان والأذن والسلوكيات والمشاعر، إذ لا فائدة ترجى في تكامل أنفسنا إذا حولنا العبادات إلى عادات وطقوس تألفها النفس وتستوحش بدونها، بينما تنطلق جوارحنا بكل اتجاه محرم فتتلوث النفس بكدورات المعاصي ويزداد سوادها حتى تظلم من كل هداية ورشاد، فمعيار النجاح والفلاح واغتنام الفرص في محطة شهر رجب هو تغير السلوكيات والتخلص من النقائص والعيوب وتطهير النفس من العادات القبيحة، وهذه النزاهة تشمل كذلك مشاعرنا وتخليصها من الأحاسيس السلبية وتجاهل الآخر والكراهيات، وقد أشرنا إلى أن شهر رجب في زمن الجاهلية تقف فيه الحروب والصراعات احترامًا للشهر الحرام، وحري بنا أن نجعل محطة شهر رجب استراحة محارب وفرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب أوراق حياتنا وعلاقاتنا ومحاسبة أنفسنا، وذلك لنقف على مواضع التقصير والأخطاء الصادرة منا ومن ثم الاتجاه نحو تصحيحها ومعالجتها، وهذه الخصومات والنزاعات على مستوى الأفراد والأقارب ناتج عن الانقياد الأعمى للهوى ووهم الانتصار وضعف الرقابة على الجوارح، وهذه المحطة الشريفة توفر فرصة للرجوع إلى تحكيم العقل الواعي في خطانا ومشاعرنا، فيتجه بنا نحو تصفير المشكلات والخصومات وتغليب لغة الصفح والتسامح، ومجتمعنا يعج بالكثير من الخصومات وتحتاج إلى وقفات صادقة لإصلاح ذات البين وإعادة المياه إلى مجاريها وتهدئة الأوضاع وتصفية الخلافات.

ومن نعم الله تعالى أن قدم لنا نماذج يحتذى بها ويشكلون منهج هداية وتربية للنفس وتهذيبها من الشوائب، فالأئمة الطاهرون (ع) تجسد في أفعالهم ومواقفهم الكمال الإنساني، وكانوا خير مثال لمن بذل عمره في سبيل الله -عز وجل- وتمسكوا بالعطاء في كل جوانبه، وهذه ذكراهم يحييها المؤمنون من خلال استعراض خصالهم وتفاصيل سيرتهم الشريفة، فمن اتخذهم أسوة حسنة وتمثل هديهم وأقوالهم الحكيمة سار بالنحو الصحيح لاكتساب الخصال الحميدة، فإحياء ذكراهم المتعددة من أول الشهر إلى نهايته تعزز وتشجع المرء نحو التعلق بمحامد الأخلاق والتجلبب بالطهارة النفسية والحكمة في المنطق والوعي في طريقة التفكير.

ومن صفات هذا الشهر الكريم أنه شهر المغفرة والرحمة التي تنصب انصبابًا فيه، وهذا لا يعني أنها تشمل المتقاعسين والغافلين الذين لا يقيمون وزنًا ومكانة لحرم الله تعالى الزمانية، فميدان العمل الصالح وصنع المعروف هو الاغتنام الحقيقي لهذه الفرصة، وهذا يعتمد على امتلاك المرء لإرادة قوية وتنظيم الوقت لئلا تطوى صفحة هذا الشهر وهو خالي الوفاض وصفر اليدين من الحسنات، فالعمل لا يتقوم بالأماني الواهمة والرغبة بتحصيل هذه الجوائز الإلهية دون عمل وسعي، فالأذكار والأدعية تمثل زخمًا روحيًا قويًا يوقظ الضمير ويدعم روح الخوف من الله تعالى والانطلاق في ميادين الحياة حذرًا من الوقوع في وحل المعاصي والمخالفات، فمتى ما عظم الخالق في قلب عبده استنكف من إتيان الذنوب وتعفف عن الآفات الأخلاقية وتنزه عن النقائص والمعايب.



error: المحتوي محمي