لا يحتاج المرء اليوم إلى الكثير من البحث ليعرف ما كانت عليه أوضاعنا الاجتماعية قبل نصف قرن من الزمن، كانت العلاقة بين الآباء والأبناء ركنًا دافئًا وعذبًا ترفل بالحب والمودة والاحترام، والالتزام بتعاليم الدين والأدب وأصول الأخلاق، مثل تلك الخصال التي تربّينا عليها وكبرنا معها كانت مفعمة بكل القيم الصافية التي اتسمت بها حياة أجدادنا، كانت مليئة بالعواطف والمشاعر وخصال التكافل الاجتماعي، لنبدأ من حيث انتهى آباؤنا الأولون في غيرتهم على أبنائهم والتضحية بكل شيء في سبيل أن يروا أبناءهم ناجحين في معترك الحياة. اليوم أصبحت الحياة الاجتماعية لدى البعض تسودها قيم خارجة عن الدين والأخلاق التي عاشها جيل الآباء والأجداد، لقد تغيّرت أخلاق الناس وثقافاتهم وأفكارهم ومشاعرهم، وبالخفة والسطحية غير المسبوقة، حتى أصبحت لدى البعض منافية للطبيعة، ولا أدل على ذلك ما نراه من أزمة أخلاقية التي يعيشها العالم وخلقت نزفًا للقيم والمثل الحياتية ومخالفة للقوانين والتشريعات والأنظمة، وقد نسأل إذًا: بما أن الحاضن الأول لنشوء الأخلاق والقيم هو العائلة، فأين ذهبت أهميتها وهيبتها؟ ومن يربي الأبناء إذن؟ وضمن أية قيم وعادات وسلوكيات ينبغي أن يعيشوا؟! ما نعتقده الآن هو أن الوالدين هما اللذان يرسمان للأبناء الضوابط الشرعية والاجتماعية والإنسانية، كصانعة للخير والفضائل ومقاومة لنزاعات الشر والعنف، وفي الوقت نفسه تضيء أمامهم الخطوط الحمراء لكيلا يقعوا في المحرمات الدينية والاجتماعية والشخصية، أو يعتدوا على حقوق الآخرين عالمًا أو جاهلاً بها.
إن ما يهدد مستقبل الأجيال الجديدة، تلك الظواهر التي يروج لها الغرب بحجة الحرية الشخصية، ما هي إلا دلائل التفكك الاجتماعي والضياع الخلقي اللذين يتخبط بهما الغرب، وأصبح مشهد الأب الذي يعيش مع أفراد أسرته، ويقف إلى جانبهم، يراقبهم ويتعامل معهم بالمحبة والإخاء، والصداقة الحقيقية والروح الرفاقية، ويعرضهم للأجواء التي تزرع فيهم روح الصمود والتحدي؛ لكي يصنع من خلالهم رجالًا صالحين، منظرًا عائليًا غير مألوف بسبب التحولات التي شهدها عصرنا الحالي، فهل هناك بصيص ضوء؟ ليس غريبًا أن يكون هناك تفاعل تحول إلى هاجس لدى الآباء والأمهات الذين يتصرفون بشكل عام على أساس مبدأ توفير أكثر وأفضل ما يمكن لحماية الأبناء والبنات من ملوثات العصر، وهذا له أثر إيجابي على الأسرة والمجتمع.
إن الآباء والأمهات يعون طبيعة التحديات والمهام والمسؤوليات الملقاة على كاهل كل منهم؛ ولكن أخشى أن تسعى بعض الأسر الملتزمة بالمبادئ الدينية والاجتماعية إلى أن تقفل باب منزلها أمام تلك التغيرات أو المحرمات، وخطورة المعركة التي تواجهها أن تقوم هي بمهمة تربية وتعليم أطفالها، هذا الثقل التربوي عليها؛ لينقذوا أبناءهم وبناتهم من مغبة الوقوع في طاحونة الثقافة الغربية الهائلة، وسوف يبدو الأمر نكتة سمجة، ولكن ما نشهده من انحرافات تجعل تلك الأسر يقظةً واعيةً من أجل المحافظة على فلذات أكبادها، هذا مخيّب للأمل فعلاً، إنه أمر رهيب.
ولا أبالغ حين أقول ذلك، فقد تُركت تلك الانحرافات ترعى في عقل الشاب الذي ينشدُّ العصر الحاضر وينجذب إليه، ولا يرى بشكلٍ قاطع من تناقض، مما جعله سريع الانهزام أمام التحديات التي تحصل أمامه، ولأن التقاعس قد أخذ حيزه في فكره في غياب الروحية الدينية والهيبة الأسرية والمسؤولية الاجتماعية، وستكون الشغل الشاغل لأجيال المستقبل، التي لا بد من تربيتها على المثل والقيم تأخذ في حسبانها ما لم يكن واردًا عند أسلافها، وما تنفثه قنوات التواصل وما في حكمها له مردود سلبي على مستقبل الأجيال القادمة، وهنا يبرز دور الأبوين في مثل هذه القضايا المعاصرة والتي توجب التفاعل معها بعداء وحذر وتربص تحسبًا لأي خطر قد يتعرض له الأبناء اطفالاً كانوا أم مراهقين عبر القيم التي تبثها تلك القنوات وفي عالم تغمره الانحرافات من كل جانب، بعض الأسر أدركت ذلك مبكرًا، فتعاملوا مع أبنائهم بذكاء وحصافة، من أجل أن يكونوا أفرادًا صالحين عقلاً وخلقًا وتأهيلاً.
نأخذ من النموذج الغربي بقدر ما يتفق مع قيمنا وأخلاقنا، ونرفض المدمِّر منها، يعني رفض التفسخ والانحلال والانحدار، رفض تفكك الروابط العائلية واضمحلالها، وإدخال نماذج وصور خارج المبادئ والقيم السائدة، لا بد لهؤلاء أن يراجعوا أنفسهم وأن ينظروا للقضية بشكل عقلاني؛ فشرائع السماء جاءت لخدمة الإنسان ووسيلة لتطوره وفي النهاية: عزة وكرامة وعدل، وليس صحيحًا القول بأن الضوابط الدينية والأخلاقية تقيد حرية الأفراد وتعوق تحركهم في المجتمع أو تتعارض مع حرياتهم الشخصية؛ لأن الهدف منها ضبط سلوك الأفراد والجماعات للارتقاء بالنزاعات العدوانية لديهم إلى المواطنية الصالحة، تمامًا كما هو دور شارات المرور التي وضعت لضبط حركة السير، والحد من الحوادث المميتة، والحفاظ على السلامة العامة، فالضوابط الدينية والأخلاقية تبعث عن الشعور بالأمان والتناغم والمودة بما يشكل تهذيبًا لسلوك الأفراد وسعادتهم، وصيانة لأمن المجتمع وديمومة ازدهاره ورقيه.
مع إدراكنا للنتائج السلبية التي قد تنتج عن استخدامنا للحريات الواسعة والمتعددة نجد أن إيجابيات تلك الحريات قد بدأت تخفت ولا يلقى عليها الضوء بما فيه الكفاية، فالحرية يمكن أن تغطي ميدانًا رحبًا من الحياة للفرد والمجتمع على حد سواء، وتطبيق العقيدة الإسلامية ليس تخلفًا، بينما نشهد واقعًا معيشيًا متخلفًا، بدأت الأمور تفلت من عقالها، ولا أحد يتصور أبعادها. أمراض وحوادث مدوية تقشعر لها الأبدان تعصف بالشباب وتهدم مستقبلهم، من هنا ندرك أن الحذر مطلوب وبالأخص عندما يكون المستهدف تلك الفئة العمرية لسهولة إثارتها وإقناعها بأفكار غريبة وشاذة.
شبابنا لا يدركون حقيقة كيف يمكن أن يكون لحياتهم نمط مختلف ما قد يقودهم إلى السقوط، أشفق عليهم في ظل تراجع موقع الأسرة والمدرسة وتأثيرهما التربوي، كما تراجعت منظومة القيم والتقاليد والعادات في الهيمنة على عقول الناشئة وسلوكهم، مما يجعلنا أمام مهمة خطيرة أمام تداعيات هذا الزمان وتحدياته وأنشد في الوقت نفسه العون للمربين، آباء وأمهات ومعلمين، لأنهم لا ريب في حيرة من أمرهم احتكامًا إلى معايير الدين والأخلاق والأعراف. ما حدث ويحدث وسيحدث عمليًا في خضم التفسخ والانحلال الأخلاقي، هو أن سمات هذا العصر تتحقق تقنيًا وثقافيًا واقتصاديًا، وفي ظل الوسائط الإعلامية الجديدة كيف ستكون حياتنا بعد عشر سنوات أو عشرين سنة؟ الواقع الحالي يرسم الصورة المستقبلية، ستصبح الحريات الفردية بلا حدود، وستنهار الأسوار، وستدفع مجتمعاتنا ثمن العولمة أو الانفتاح العشوائي وستعيش أجيالنا القادمة الصدمة على نحو مؤلم. والدين الذي يظنه البعض مجرد محاضرات وندوات تلقى في المساجد أو المجالس، هذا الدين يملك العلم والمعارف لجعل حياتنا أفضل. أتمنى فقط أن يستخدم الناس حريتهم بعمل أشياء تعود عليهم وعلى مجتمعاتهم لكل ما فيه خير هذا البلد.