ثقافية النّص المسرحي في “النّخلة بيئة” لنرجس الخباز

إنَّ الكتابة المسرحية لها رونقها الماتع في القراءة، كغيرها من الفنون الأدبية الأخرى، بعيدًا عن وجودها على خشبة المسرح، والذي له طابعه الخاص المُتفرّد.

تتجه الكاتبة السّيدة نرجس الخباز في إصدارها المسرحي الذي جاء بعنوان: “النّخلة بيئة” إلى تجذير مفهوم النّخلة، كرمز حضاري، يُدلل على القيم والمبادئ الإنسانية، المُتقاطعة مع الأصالة، لتُدخل المُتغيرات، التي يُنتجها العامل الزمني في حياة الإنسان، بكون الحياة، ديدنها التّغير؛ نتيجة ما يفرزه التّطور، والسّعي إلى الأجمل تكامليًا، حيث إنّ الإنسان، يهفو إلى التّكامل.

في الحدث الدّرامي، نُبصر جليًا أنّ الكاتبة الخباز، لم تقتصر دراميًا على عنصر الفُكاهة “الكوميديا”، كهدف أساسي، مساره الإضحاك، وبث المُتعة لدى المُتلقي، ليأتي عاملًا تستدعيه من خلال المُعالجة الدّرامية، وتمرير الحالة الثّقافية فيما يخص “النّخلة”، كرمز، يُشير في مُجمله إلى الأرض، والزّراعة، والأثر الإيجابي لها في حياة الإنسان.

كتبت: تقترب حنان من سمير: أبي، ماذا يعني بيئة؟! بيئة يعني (ينظر إلى شاشة التلفاز) هِيَ مَجْمُوعُ العَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ والاصْطِنَاعِيَّةِ التِي تُحِيطُ بالإنْسَانِ وَالحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وتُشَكِّلُ مُحِيطَهُ الطَّبِيعيِّ. يلتفت بكامل جسده
إلى حنان (صوت مرتفع) مِنْ أوْجَبِ الواجِبَاتِ فِي عَصْرِنَا ضَرُورَةُ المُحافَظَةِ عَلَى البِيئَةِ.

يخفض صوته، وأيضًا يا حنان، البِيئةُ المنزل أو الحال، وعندنا علم يعرف بعلم البيئة (البيئة والجيولوجيا) علم يدرس علاقة البيئة بالأحياء، فيبحث في علائق الكائنات الحيّة ببيئتها الطبيعيّة، وخصوصًا تأثير العوامل الطبيعيّة والإقليميّة فيها (وسلامتك) لغة عامية.

كتبت: ثم هذه الأشجار (يشير إلى أشجار المنجروف)، إنّها تنبت هنا منذ مئات السّنين، لا ينفع أن تزيلها أو تنقلها إلى مكان آخر، سوف تتضرّر الكثير من الكائنات التي تعيش حولها، انظر إلى بقع الزيت هذه (يشير إلى الأرض) إنّها أكبر خطراً على التربة وأيضًا على مياه البحر.

النّص المُثقف
إنّها تتناول “النّخلة” من زاوية الإرث، الذي ورثه سمير من أبيه، وهنا المُتعارف عليه -في العادة- عن التّركة، التي يتركها المُتوفى لأسرته “الورثة”، من أموال ومُمتلكات، لتجيء هنا، لتنوه بأنّ القيم والمبادئ، وكلّ المفاهيم الإنسانية، والأخلاقية، والثّقافية، المُتمثلة في التّربية، لتكون من الإرث، يتركه المُتوفى، أنّها حالة ثقافية.

كتبت: كم من المرّات قلت لك بأن تخلعها وتبني لنا مكانها استراحة جميلة نستفيد منها وقت راحتنا ويمكننا أن نؤجرها بمبلغ جيّد.

يتحرّك سمير (حالة من الغضب): قلت لك لن أفرّط في إرث أبي، لقد أوصاني بها كثيرًا، إنّها النخلة بيئة التي كنت ألعب بجانبها وآكل من ثمرها في الصيف، وتمرها في الشّتاء، إنّها حياتي الماضية.

تأتي سردية المشهد المسرحي، لدى الكاتبة الخباز سردًا تصويريًا في حبكته، يأخذ الضّفة الإخراجية في مُنحنى الفعل، لتجعل القارئ لا إراديًا، كأنّه جالس، يتأمل هذا الحدث الدّرامي، ويتفاعل معه بكلّه، وهذا النّوع من الكتابة المسرحية، أجده -تواضعًا-، سردًا يبعث على تفاعل المُتلقي بنسبة عالية، لما له من فاعلية، بكون الكتابة المسرحية، تتسم بالتّفاعل، ليصل إلى ذروته، مُتضامنًا من فاعلية النّص، وقُدرته تصويريًا على مستوى الفكرة ذاتها، والفعل على خشبة المسرح، أو في قراءة الأبجدية.

كتبت: صوت زقزقة العصافير، النوارس، حمامة النخيل، شمس ساطعة، خلفية وراء النخلة بيئة، تحتوي على صورة بحر، أشجار المنجروف، نوارس (بداية الصباح).

وهذا ما تتبعه في توصيف الفعل الفُكاهي: كتبت: أنت صباح؟! ماذا عملتِ لوجهك؟ وشعرك؟! يقترب منها، يضع إصبعه على رموشها: وما هذا؟ كيف أصبحت رموشك مثل المكنسة؟!

هناك ثمّة فرق بين أن تنقل حكاية، تسردها، وبين أن تجعل المُتلقي يعيشها، كواقع، يتناغم معها -بحسب تفاصيلها-، وتجسيد الشّخصيات، حيث إنّ تقنية هذا التّجسيد، تعتمد على تفاعل الكاتب نفسه مع الشخصية، وكيف ينسجها، ليضعها في مُتناول المُتلقي، كترتيب مكعبات لعبة ما، لتكتمل اللّوحة في النّهاية، فالمسافة، التي تقطعها في ترتيب هذه المُكعبات، تجعلك تعيش درامية التّشكل التّصويري لها، بالإضافة إلى تفعيل النّاحية العقلية.

كتبت: يحتضن النخلة بيئة مرّة أخرى، يشمّها (حالة بكاء، حزن). تقترب صباح منه تشير إليه بيدها : إذا كنت تحبّنا بحقّ، بِع الأرض يا سمير.

تدخل حنان من إحدى زاويا المسرح وتقترب
من سمير: حقًّا يا أبي بِعِ الأرض! يدخل عليٌّ وحميد من زاوية المسرح الأخرى، ويقترب من سمير بصوت واحد: بِع الأرض! الجميع: بِع الأرض، واقلع النخلة بيئة (صوت مرتفع)، صوت الأم وصورتها من الخلف: (هاله هاله في النخلة بيئة يا ولدي!).

السّيد تدوير
أدخلت الكاتبة الرجل الآلي في المسرحية، الذي أسمته “السّيد تدوير”، وكما يُقال: لكل إنسان من اسمه نصيب، وهنا هذا الرجل الآلي، في مُسماه ” السّيد تدوير”، يُدل على العملية، التي يقوم بها؛ استعارة من تقنية تدوير الأوراق التّالفة، أو التي لا فائدة منها، وإعادة تأهيلها للاستخدام الجديد، والنّافع -بالضرورة بمكان.

يجيء “السّيد تدوير”، ليكون المُتنفس إلى “سمير”، والعلاج النّافع، والنّاجع، الذي تراه الكاتبة، لتُعالج هذه الثّقافة التّطويرية، وأدلجتها بالطّريقة الصّحيحة، كأنَّما أرادت أن تغرس في ذهن المُتلقي على لسان الشّخصية “سمير”، أنَّ التّطور لا يعني الانسلاخ عن الأرض، لا يعني الابتعاد عن قيمنا ومبادئنا، عن أصالتنا، عن رائحة هذه الأرض، عن ذكريات طُفولتنا، عن درامية حياتنا مُنذ نُعومة أظفارنا، عن حكاياتنا، عن مُشاغباتنا، عن لعبنا، عن أحلامنا، عن تفاصيلنا.

إنَّ الإنسان في هذه الحياة يحتاج إلى من يشعر به، من يأخذ بأوجاعه، يُشاركه ذكرياته، يضمّ يديه، ليُحافظ على ماضيه، الذي هو نافذة المُستقبل. والسُؤال الذي يطرح نفسه مفاده: لماذا كان هذا الشخص، هو الرّجل الآلي “السّيد تدوير” هذ السُؤال، يأخذنا إلى سُؤال آخر، مفاده: لماذا كانت أحداث المسرحية بكاملها في الأسرة؟، هل ثمّة شيء أرادته الكاتبة من هذا التّمركز المكاني؟ وفي تأمل السُؤال الثّاني، بعد ذلك، سيتبين لنا من هو “السّيد تدوير”، لنتعرف عليه.

إنَّ الأقسى للإنسان، أن تكون أسرته لا تتفهم ذاته، وأفكاره، وأمنياته، ليعيش حال الغُربة في المكان، الذي يُفترض أن يكون الأقرب إليه من سواه، كالزّوجة، الابن، والبنت، أو الأخ، والأخت، تصاعديًا، ولكن أن يكون هذا الأقرب هو الأبعد ضمنيًا، وظاهريًا، وعليه ألا تكون مُعاناة الإنسان الأشد وقعًا على نفسه، لهذا عندما يفقد هذا الانتماء من قبلهم، سيلجأ إلى سُبل أخرى، ليتنفس، ليُلملم هذا التّوجس، هذا الحُب للنّخلة، للطّبيعة، لهذه الثّقافة، التي يعيشها، ويتبناها فكريًا، فقد تجده يُطيل الجلوس عند شاشة التّلفاز، أو يقضي الوقت الكبير في قراءة كتاب، أو التّجول بعيدًا عن جدران أسرته، لتجيء خُطواته في بُستان هنا، أو زُرقة بحر هناك، أو بين البيوت القديمة.

جاءت الكاتبة الخباز بـ”السّيد تدوير”، الرّجل الآلي، الذي في منظره الخارجي تشكل على هيئة إنسان؛ لتُبين شغف “سمير” بالإنسان، الذي يراه مثل ذاته، يعرف قيمة هذه النّخلة، ليُحافظ على الطّبيعة، ويُوسع من إدراكه، لأثر الطّبيعة على حياة الإنسان.

من جديد
تزداد الحالة التّفاعلية في الحدث الدّرامي، لتكون المُفاجأة، والدّهشة العليا، من خلال صوت الجرافات، وهي تُزيل “النّخلة بيئة”، وتجعل الأرض كخط مُستقيم، الاستواء، يأخذ كلّ زواياها، وتتحطم أمنيات، وأحلام “سمير”، الذكريات المُتعلقة بهذه الأرض، بهذه النّخلة، مُؤلم جدًا أن تنظر إلى ذكرياتك، وهي تتشبث بك، ولا تستطيع أن تستمر في احتضانها، كما كنت سابقًا، تمّد ذراعيك، وتحتضنها.

كتبت: أبي، انظر، إنّها الجرّافات تجرف الأرض (حالة تفاجؤ). ماذا!، يضحك حميد بصوتٍ عالٍ: قلت لك إنّي سوف أعمل على جرف الأرض قريبًا وسوف تبيعها في النهاية. يخرج مُسرعًا من المسرح يزداد صوت الجرّافات حدّة، يتحرّك الجميع في المسرح (حالة هروب) إلّا سمير الذي يتحرّك نحو النّخلة بيئة: لن أسمح لهم أن يقلعوك من مكانك! تُطفأ الأنوار، صوت الجرّافات يزداد، أصوات مرتفعة، أضواء ضعيفة مُشتّتة، دُخان كثيف، بعدها تتلاشى الأصوات شيئًا، فشيئًا، ترتفع الإضاءة، يتلاشى الدّخان.

المسرح في حالة فوضى، النّخلة بيئة غير موجودة، خلفية المسرح صورة أرض خالية من الزّراعة، الأشجار مُتساقطة على الأرض يرتمي سمير على الأرض (حالة بكاء، حزن). في قمّة الألم، هنا يحتاج الإنسان إلى الأمل، فلا شيء، يجعل الإنسان شامخًا، يجعله مُتألقُا، يستمتع بالحياة برغم ظُروفها، كالأمل، هنا تُؤكد الكاتبة الخباز أنَّ الأمل يأتي الضّوء الذي يسقط على ملامحنا، فيجعلها تنتعش، وتزهر، لنقُول دائمًا: سأبدأ من جديد، سأتقدّم خُطوات باتجاه الضّوء، لأزرع هذه البّذور، وأسقيها من عينيّ الماء، لتُزهر، وسأجلس تحت ظلّها ذات يوم.

كتبت: يتقدّم السيّد تدوير يحمل تابوتًا بداخله علبة صغيرة، يقترب من سمير، يقف عند رأسه. يرفع رأسه ينظر إلى السيّد تدوير: هل هذا رُفات النّخلة بيئة؟ يشير السيّد تدوير إلى التابوت (حالة حزن) ثم يضع التابوت أمام سمير، ويبتعد قليلًا. يفتح سمير التابوت يجهش بالبكاء (حالة تحسّر، وحزن). يستخرج صندوقًا صغيرًا جدًا، يفتحه ويستخرج منه حبّة نواة، يمسكها بيده، يُشير إلى السيّد تدوير: هل هذا ما تبقّى من النّخلة بيئة؟ السيّد تدوير يُشير برأسه (حالة حزن). يتأمل سمير النّواة قليلًا ،يبتسم، تتغيّر ملامح وجه (حالة أمل).

يحتضن النواة ثم ينظر إليها مرّة ثانية: سوف نعود يا نخلة بيئة، سوف نعود، ترتفع أصوات فرح من الخارج، مُوسيقى، صوت البحر.

ختامًا، إنَّ اتجاه كتاب المسرح إلى إصدار نتاجهم المسرحي بين دفتيّ كتاب، تأتي مسارًا صحيًا، يجعل من هذا النّص المسرحي، يُثري الذّائقة الأدبية بمُختلف ألوانها، سواء أكانت بالنّسبة إلى صاحب اليراع أو القارئ على حدّ سواء، لما لهذا النّوع الكتابي من الأثر النّابض، والإثراء المُغري.



error: المحتوي محمي