أحد أقربائي ناهز الستين من العمر كان متمسكًا بعبارة يرددها بين وقت وآخر وهي (أخس الحياة ولا الموت) وكنا نستغرب كيف لرجل في هذا العمر يقول ذلك غير آبه بالموت ويتحدى أمرًا إذا حلّ بالإنسان لا يملك شيئًا حياله إلاّ الاستسلام والتسليم، فالموت هو الحقيقة الحتمية التي لا مناص ولا مهرب منها، فما قيمة أن تصبح رجلًا طاعنًا في السن تكون فيه عبئًا ثقيلًا على غيرك وترجع كطفل عاجز لا يحسن تدبير أموره، ومع ذلك كان قريبي يتحدى هذا الشعور المقيت وما زال يتقوّى بهذه العبارة إلى أن جاء اليوم الذي أقعده الفراش إثر جلطة عنيفة وحادة ألمّت به ورغم ذلك لم يهُن ولم يضعف وربما المبدأ الذي آمن به كان له أشبه بالقشة الصغيرة التي يتعلق عليها وسط بحر العمر الغادر أملًا في العيش لفترة أطول.
وبالفعل تعايش مع المرض وعاش سنينًا أطول مما هو متوقع واستمتع بما تبقى له من العمر وكانت الضحكة لا تفارق شفتيه وهو يتمايل في مشيته بكل عناد وتحدّ متكئًا على ذلك العكاز الخشبي الذي صار هو الآخر لا يقوى على حمل ذلك الجسد الهزيل.
في الإنسان غريزة أشبه بغريزة يتمتع بها الحيوان وهو الصراع من أجل البقاء وهذا ما يقلق الإنسان عندما يهرم فيشعر أن حياته مهددة بالخطر فتجده يقاتل بضراوة ويلجأ إلى شتى الطرق من أجل كسب المزيد من فرص البقاء والعيش لأكبر قدر من السنين، لذلك يبحث عن جرعات الطاقة، فتجده يقاتل من أجل توفير الطعام لسد جوعه وتأمين مقومات المعيشة ولا يتأخر عن علاج نفسه عند إصابته بأي مرض عارض ولا يكف عن توفير بعض الضمانات الأخرى التي تؤمن له عيشًا رغيدًا خاليًا من أي خطر يهدد بقاءه وحياته، لذلك أصبح الموت هاجسًا مزعجًا يلاحق مضاجعنا وأحلامنا وأمانينا وعلينا أن نؤمن بهذه الحقيقة ولا ننكرها وألا ندع غرورنا يجعلنا ننكر هذا القدر المحتوم فهو الراحة الأبدية كيفما كان حجم ونوع الألم الذي ينتظرنا في نهاية العمر.