دعوة الرضا

باسمهِ تعالى أرسل اعتذاري على هيئة نصٍ ممزوج بين الواقع والخيال لتصل لك فكرة -أيها القارئ العزيز- أن الحياة سترسل لك شخصًا يومًا من الأيام، يحجب عنك الهواء؛ لألا يُؤذيك..
بدأ الأمر كعادته مجهولًا، وبإغلاق خطٍ فيه كان عهدًا لم ولن يزول، كان محتواه “سأراكِ غدًا شئتِ أم أبيتِ”..

غدًا جهزتُ نفسي، وارتديتُ أجمل الثياب، وتعطرت بأفضل العطورِ وأجودها، أمسكتُ بيديَّ باقةً من الزهور البيض في انتظار الموعد، وإذا بهاتفي يُرسل إلى أذنيَّ همساته “دقيقتان وأنا بجانبكِ يا عزيزة قلبي”..

لن أستطيع أن أصف لكم كيف أن الحياة في وقتها تحولت لجنات عدنٍ زاهية، وبدت الأمطار من حولي، تتراقصُ فرحًا على أرضية الشوارع، كان الهواء البارد بمثابة معزوفة حُب، تُطرب أشجان قلبي، ألوان ملامحي، وظلُّ عينيَّ في قطرات المطر..
وصل..
ذهبتُ والمطر من حولي، يتساقط، وكان الهواء، يحمل عطري، يسبقني إليه متلهفًا..
– أهلًا كلّ عامٍ والفرح يملأ حياتكِ، يا كلّ حياتي، أيامي الوردية.
– ما هذا؟!، كلّ هذه الورود؟
– لا شيء مُقابل حُمرةِ خديك. يُلاطفها وهو يبتسم
احمرَّت وجنتيَّ، وشفتيَّ تشي بالابتسامة، واحتوانا الطّريق.
– إلى أين؟ سألته بدفء
– أراني جائعًا، واليوم ضيفكِ، سأكون، اختاري وتدللي أي مكان يُشبهكِ، لهفتي سكون.
والضحكة الخرساء، تجتاحني في غفلة من الوقت..
انظر للوقت إنَّه يُداهمك أو تُداهمه.

– سأصنع ساعة جديدة، لا تنتمي إلى عقارب السّاعة، لا تشغلي بالك. يبتسم هو
كان هاتفه النَّقال لا يهدأ من الرسائل والاتصالات إلا أنَّه كان يتجاهلها، ليملأ الدّقائق بي.
استمرت الأغنيات بتأثيث اللّقاء، الحُب يفُوح من عينيهِ، كرائحة البنفسج والياسمين، إلا أنَّه لم ينطقها، إلى الآن لا زال الصّمت، يسكن شفتيَّ البوح.
– كيف حالك؟
– بخير وأنت؟ أجيبه في دهشة النَّظرات
بكلّ الحُب، يُجيب..
– الحمد لله، طالما أنتِ ظلّي، كلي بخير.
إلى أن وصلنا لوجهتنا الأولى بالقرب من رجل يبيع المشروبات الساخنة على حافة الشارع، كان المطر يتزحلق على كاسات الورق التي يستخدمها.
أوقف السّيارة، ونظر إليَّ في حنان.
– شايًا أم قهوة؟
– أنت
-“ضحك” أخبريني، شايًا أم قهوة؟
– بالطبع شاي!
– حسنًا.
مرّت الدّقائق، كالرّقص، تُلهب نبضات القلب.
باغتني بسُؤاله..
-ألم تُخبريني بأنَّك لا تُحبين المطر؟
انتابتني لحظة صمت..
نعم، لا أحب المطر، ولكن في هذه اللّحظات، وكلي معك، أشعر بأنَّ حُبيبات المطر، كطفل يلهو فرحًا، كعصفور يُزقزق فوق اخضرار الأرض، وزُرقة السّماء، لا أعلم كيف، ومتى بدأ هذا الشُعور، ترتشفه النّبضات فيَّ.
– أحقًا لا تعلمين؟!، سأحاول تصديق ذلك.
ورمقته في استحياء..
أعندك شك؟
ونحنُ في الطريق راقبته، فرأيت يديهِ ترجفان من البرد، الآن، ألا تشعر بالبرد؟!
– لا.. ولكني حين أشعر بالتوتر، ترتجفُ أطرافي، ترتعش ملامحي، كأنَّ عينيَّ، تنتفضان لتذرفا دُموعهما.
أخذ يُحدثني عن أيامه المُتعبة، التي أرهقته في لياليها الحالكات، وفي نهارها المُشمس، تألم قلبي، وهو يسردها، فلم أشعر إلا بيدي، تُعانق يديه، غارقة في الغياب، لأضمها إلى صدري، أيُصغي إلى نبضاته، أم يُلامس وجعي، الذي جعلني أتسلل إلى ذاتي خلسة، لأبكي.

وهل ثمَّة وجع، كفراق الحنان، كجفاف شفتيَّ الرُوح في وجودها؟ وهل يمرّ على الإنسان أقسى من النّظر إلى أمه، وهي بلا حراك، بلا كلمات، ليُشيعها إلى مثواها الأخير؟ وهل ثمَّة غُربة، كغُربته، بعيدًا عن هذه الأمكنة، وهذا الزمان، الذي اجتمع في قلبها، وهل لهذه الحياة طعم في دُنياه، ومن كانت الحياة راقدة في التُراب؟

قرأت في عينيه، ولمست في أصابعه الضياع؛ طفل ضائع، والتقى بحضن أمه بعد غياب دون أن يشعر، لم أكن، كأمه، وهل هناك من يأخذ مكانها، أو يكون صُورة لها، ولكني أفهم ما في داخله، لقد شعر بي، تنفس رائحة قلبي، وتحسس دفء رُوحي، وتفاءل بالحياة من خلال ابتساماتي، هكذا أفهمه.
توقفت عقارب الوقت فجأة، وأصبح كلّ شيء، يُغني بحُب، كلّ النَّاس أصبحت وجوههم رائعة، وأصواتهم أغنية حُبلى بالأمل.
حتى أنا أزهر في جوفي ربيعًا، كان خريفًا جافًا وانقضى.
– أتزعجك يدي؟
ورحتُ أسحبها، لم يقل شيئًا، لكنهُ شدَّ على يديّ بكلتا يديه، وابتسم.
وظلّ مُمسكًا بيديَّ، أشعر بحرارة يديه، وهو يتحدث عن لياليه الخالية، وكلّما ذكر شيئًا مُتعبًا شدّ على يديّ، كأنَّه يود إخباري بأنَّني أمنيته الوحيدة، والبلسم الذي يرنو إلى أحضانه الدّافئة، والأذن الصاغية إليه في هذا الكوكب الكبير.
وكلّما تحدث عن شيء يُؤلمه، وضعت يده على قلبي بصمت، لأهمس في تأملاته لي بأنَّه بداخلي.

كانت اللّيالي كفيلة بكلّ شيء، لتُخبره، وتُخبرني بأنَّني أمنية أرادها أن تتحقق، ليُفرج همه، وأن لي دعوة أمه كلّما سقط المطر، إنَّه الرضا لكلّ الرّفض بأن نلتقي، بأن ينمو عشقنا، ويجمعنا الظلّ، لنعشق الحياة أكثر، فأخبرني وأخبرته بأنَّنا نُحارب كلّ الظروف القاسية عبر هذا العناق، عناق أصابعنا تحت وقع المطر، وتحت سيمفونية نبضات قلبه، قلبي..

مرّت الأيام سريعًا بكيفياتها ومواقفها الجميلة والصعبة، باغتتني بسؤاله ذات ليلة، كنا نتحدث معًا عبر الهاتف النَّقال.
– أتعرفين معنى اليُتم؟
– من فقد أبويه؟
– وأيضًا؟
– لا أعلم، أخبرني أنت.
– حسنًا أصغي إليَّ.
أمي، إنَّها دائمًا تحثني على المضي قُدمًا، وتُعزز لي ذاتي، وتحتويني بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، كانت تُؤمن بقُدراتي التي لا أراها، كانت تُلازم التّحفيز، كان الحنان، ينبع من تصرفاتها، تُعاملني طفلها المُدلل، الذي تجد فيه الأمل لها، الأمل في مُستقبل مُشرق، ستفتح نافذة حُجرتها يومًا، لتجدني الأمل، وقد تحقق، لا تكل ولا تمل من الملاحظة، من تقديم التوجيهات التي تصب في مسار طُموحي.

كانت أمي تقُول لي عندما أخفقت في دراستي ذات عام، وكانت درجاتي ضعيفة: أنت تستطيع أن تكون شخصًا أفضل، وكلي أمل ويقين بك، فإني أرى نفسي فيك فلا تخذلني.

يومها أخذت على نفسي عهدًا بأن تكون فخورة بي.
اجتهدت في سبيل أمي، كنت أذاكر دروسي على وقع كلمات أمي، وكانت نهاية العام، تسلمت الشّهادة، اغرورقت عيناي بالبُكاء، ركضت فرحًا، أنادي أمي البشارة لقد فعلتها، لقد حصلت على الدرجة الكاملة، انظري.
احتضنتها، بكت عيناها فخرًا وحبًا، وقالت: ها قد فعلتها، لقد أفرحت قلبي، كن دائمًا مبادرًا، طموحًا، فالإنسان ينبغي أن يكون مُتعلمًا، تذكر هذا.
أما عن أبي..
فقد كان رجل دين، وأكاديميًا، يهتم بالعلم، لا زلت أتذكر ابتسامته الخلاقة، يوم تخرجت أختي في الجامعة، كان سعيدًا، وابتسامته بابتهالات شفتيه، حامدًا الله، ومسبحًا، يُردد دائمًا “الحمد لله”، كان ذاكرًا وعابدًا، أصغي إلى ترتيله ليلًا ونهارًا، القُرآن لا يُفارق يومه.
وحدث ما حدث، الوقت الذي لن يخبو من ذاكرتي..
تساقطت دُموعه..
كلي آذان صاغية، لا تتوقف، خذني إلى عالمك هذا، اصهرني فيه..
دخلت ذات مساء إلى المنزل، التفت يمينًا ويسارًا، توجست فجأة، أين والديَّ، لا أراهما، كالعادة في استقبالي كلمّا رجعت؟
هُدوء مُخيف جدًا، لم أعتد رُؤية الأشياء صامتة، لم أشعر بالانكسار، كانكساري الآن، أين أمي العطوفة، أين أبي الحنون؟
أخذت شهيقًا عميقًا، أغمضت عينيَّ ظنًا مني أن هذا الكابوس سينتهي، وستُشرق ابتسامة أمي، ودعاء أبي، إلا أنَّ الوقت يمضي ولا شيء، يُشير إلى بهجة، كأنَّ الحُزن قميص، سأرتديه، حالة من فوضى الحواس، تجتاحني.
ألقيت بنفسي على الأريكة، لا أعلم كيف أتصرف، فإنَّ هاتف أبي النَّقال مُغلق، كذلك أمي، لم يخطر ببالي الاتصال بأخي، أو أختي خوفًا عليهما من القلق والخوف.

فُتح الباب، رمقته بعينيَّ، كأنّي أبحث عن هذا الصوت، وإذا بأخي يُقبل، كانت وجنتاه حمراوين، حدّقت في عينيه، كان السّواد، يُحيط بهما، أسره باتجاهي، احتضنني بقُوة، وصرخ: لقد مات والداك، مات أبي، ماتت أمي.
يبكي بحُرقة، وأنفاسي تتصاعد، لم أستطع احتمال الخبر، الصّدمة اعترتني، لم تخرج الكلمات من شفتيَّ، ولم أشعر بنفسي، إلا وأنا في المُستشفى، وأخي بجانبي، وهو يطلب مني أن أبكي، لكي أريح قلبي، حتى لا تزداد حالتي سوءًا، وأنا أحدّق فيه بلا كلمات، وأبكي بلا دموع، عرفت بعد وقت تجاوز الأسبوع أنَّ حادثًا في الطريق، أصابهما وعلى إثره، تعانقت رُوحهما في الحياة، وتعانقتا في الموت، كذلك، ليرحلا معًا.

أصبحت يتيمًا، قد أبصرهما، ولكني أعيشهما في ذاتي، وذكرياتي، لا زالت كلماتهم، تلفني، تُمطرني حُبًا، تُهديني طريق النّجاح، كم أشتاق لهما، آه، لفراق أنهك الرُوح..
كم أعشق النّجاح، سـأكون ناجحًا، سأبعث كلّ يوم رسالة إلى والديّ من خلال ما أنجزه، إنَّهما حاضران فيَّ.

كنت أهفو إلى رفيق درب، رفيق درب يُشبه أبي، ويحمل في داخله قلب أمي، فكنتِ أنتِ، مُنذ النَّظرة الأولي، انجذبت رُوحي إليك، أحسست بأنفاس أمي تحوطني بين ذراعيها، تأملت صوتكِ، كان يُشبه صوت أبي، في حديثكِ أراه، وألمسه، يا تُرى من أنتِ؟ وما السرّ في أنكِ الآن معي؟
معكِ شعرت بالاطمئنان، أنَّ بين رُموش عينيكِ أراقص المطر..
الآن، يهمس في أذني، يختلس النَّظر، بعيدًا عن الواقع، يقًول لي: قريبًا يا حبيبتي، سنكون معًا، ليجمعنا الأمل، ونعيش معًا، أرفع كفي بالدّعاء بأن يرزقني الله بنتًا، كأمي، وولدًا، كأبي، هل لديك اعتراض؟! يسألها مُشاغبًا
إطلاقًا، ليس لدي اعتراض، ليكن ذلك، أحبك، كأمك، وأنظر إليك، كأبيك.



error: المحتوي محمي