أم البنين (ع).. سيرة بأحرف ذهبية

حقيقة الشخصيات وتمييزهم يتكئ على تلك السيرة التي سطروها في هذه الدنيا ومواقفهم التي يقيمها مجهر التحليل لمواقفهم، والتقييم العقلاني البعيد عن العواطف والأهواء هو ما يعتمد عليه ونتبناه، وهذا كتاب التاريخ قد كتبت فيه سيرة مختلف الشخصيات المتباينة في اتجاهاتها وأفكارها وقيمها، وعندما نضع معيار الإنسانية والرفعة التكاملية في الصفات اللائقة بالإنسان المكرم بعقله الواعي، سنجد شخصيات تجسدت في سلوكياتها كل معاني الرقي والنزاهة من النقائص، وفي المقابل هناك من تخلى عن زمام العقل الناضج وتحكمت في قواه وتفكيره الأهواء والشهوات، فانحدر إلى عالم البهيمية والانحطاط الأخلاقي فانسلخ من رداء الفضيلة وبانت عورة السوء والعيوب منه.

وهذا كتاب التاريخ يسجل بقلمه مسيرة كل إنسان وما كان عليه من درجة الوعي والاستقامة أو التسافل والحياة الغرائزية وما بينهما من مستويات مختلفة، وبلا شك، فإن الحديث عن قمة الهرم في عالم الفضيلة والتكامل يوصلنا إلى من تنزه عن النزق والمعايب، وكان مصباح هديه في ميادين الحياة هو قوته التفكيرية الواعية والناظرة إلى النتائج المترتبة على ذلك، وأهم معالم الرقي في شخصية الإنسان هي الحكمة الجارية على لسانه والمواقف الأخلاقية والتصرفات المتضمنة للعطاء والتضحية والمواساة.

الحياة ميدان اختبار يغربل من خلال محطاتها حقائق الناس وما تحمله دواخلهم من معادن، فهناك من تصهره الابتلاءات وتظهر معدنه الثمين الذي لا يقدر، وآخر قد خاب ولم يحالفه النجاح وانساق خلف المآرب الشيطانية وأوقعه طغيان نفسه في حفر الخيبة، ولم نفقد يومًا تلك الشخصيات العظيمة التي انسلخت من الأنانية والنفعية الدنيوية؛ لينطلقوا في ميدان العطاء والمواساة وتقديم العون للآخرين، مواقف تصدر منهم تعد شجاعة وجريئة لا يطلبون من خلالها إلا رضا المعبود والتقرب إليه.

ومن تلك الشخصيات العظيمة التي سطعت في فضاء المواساة والتضحية هي السيدة أم البنين (ع)، ومن تتبع سيرتها ومواقفها وأخضعها لمجهر التحليل والاستنتاج فسيصل إلى خلاصات مهمة تشير إلى تجسيد معالم السمو والوعي والإيثار، فهذه المرأة الجليلة نشأت في بيت عفة وكرم، فأبوها عامر الكلابي العامري شيخ القبيلة وسيدها، وقد أثر ذلك في تربيتها وتهذيب شخصيتها فاستقت من ذلك البيت تدينها ومكارم الأخلاق، فما كانت -وحاشاها- من أهل الدنيا والدعة واللاهثين خلف زهرتها وسراب زخارفها، وإنما كانت من العارفين بدورها الوظيفي في هذه الحياة، والتي هي ممر لمستقر الآخرة وسيرحل منها المرء بعد حين، وفاز من استعد لآخرته بأعمال الخير والمعروف، ومن كانت سيرته شاهدة على نورانية سريرته وعبوديته لله -عز وجل- ومما يدل على سمو أخلاقها وولائها أنها في ليلة زفافها وحينما تطرق باب بيت أمير المؤمنين، تخاطب الحسنين (ع): سيداي هل تقبلان خادمة عندكما؟

الله الله على تلك التربية والأخلاق التي اكتسبتها السيدة أم البنين، فبدت منها علامات التواضع والاحترام الفائق لأولياء الله تعالى، هذا منطق شابة في ليلة زفافها وهو ينضح بالمعرفة والرشد والسداد، وفي تلك الليلة تطلب السيدة أم البنين (ع) طلبًا يبعث على الدهشة، حيث طلبت من أمير المؤمنين ألا يناديها باسمها وهو فاطمة، وأجابت معللة لهذا الأمر بقولها: إذا ناداها باسم فاطمة فإنه يبعث على الأسى والحزن في قلبي الحسنين (ع)، حيث ينطلق ذهنهما إلى أمهما فاطمة الزهراء (ع) فيؤذيهما ذلك معنويًا، وهي لا تريد أن تكون في يوم من الأيام سببًا لأذاهما، وطلبت أمرًا آخر يزيد من مقامها الرفيع ويبين رقة قلبها واستحقاقها لتحل سيدة في ذلك البيت النوراني، حيث طلبت من الإمام علي (ع) أن يقسم المبيت بينها وبين الحسنين (ع)، فيبيت عندها ليلة وليلة مع الحسنين لئلا يشعرا بالحرمان العاطفي من أبيهما، وهما اللذان أصيبا بجرح فقد الأم عما قريب، فأين نجد امرأة عظيمة كأم البنين (ع) والتي جعلت خلف ظهرها كونها الزوجة الأخرى لأبيهما (ع)، وركزت على الوظيفة المهمة في ذلك البيت وهي رعاية الحسنين سيدي شباب الجنة والاهتمام بشؤونهما.



error: المحتوي محمي