لكنَّها لم ترحل «22»

تنتظر ياسمين أن يدق هاتفها النّقال، أن تصلها رسالة منه، يُبارك لها التّخرج، يُشاركها فرحتها، ولكن لا حياة لمن تُنادي.

ما أصعب أن تعيش فرحتك وحيدًا، كالأم، التي تزوج أبناءها، وأصبحت خُصلات شعرها بيضاء، ووجنتاها ذابلتين، وأخذت منها السّنوات نضارتها، وحيويتها، فلا يسأل عنها أحد، ولا يُشاركها أحد في الفرح والحُزن، أو يقضي ما تحتاج إليه، لتنسلخ الحياة من دقائقها، فتُصبح بلا لون أو طعم، كأنَّها تنتظر الموت، لتسرح في ألوانه، ألوانه الشّاحبة.

حنان، تُوزع ابتسامتها في المسافات، تحدثت مع والديها، فلم تنتهِ منهم، حتى جاءتها مُكالمة من أخيها، لتعقبها مُكالمة من أختها، لتستغرق وقتًا في الحديث معهم جميعًا، والسّرور، ينتاب نبضات قلوبهم، وملامحهم، ملامحها، قلبها غمرته السّعادة، انتشاء الرّاحة، كزرقة البحر، وصفاء السّماء..

ارتقين سيارة الأجرة، مُتوجهات إلى الشّقة، التي احتضنتهن سنوات، إنها اللّيلة الأخيرة لهن في كنفها..

مضى الوقت، غدًا، يُشرق يوم جديد، تنساب من شُرفته أحلام جديدة. هكذا أعينهنَّ تبُوح في بُستان الصّمت.

في صباح الغد، الحقائب لها طعم آخر، العودة إلى الدّيار، إلى بداية مرحلة جديدة من حياتهنّٓ، وما إن بزغ الضّوء، إلى وقت الظهيرة، تأخذ الشّمس طريقها باتجاه الغُروب، وتحديدًا في السّاعة الثالثة عصرًا، جلسن على مقاعدهن في الحافلة، لتنطلق باحلامهن، كلّ واحدة منهن، تنسج في خياله عبق اللّقاء بالأهل، كيف سيكون اللّقاء ما بين انتعاش القلب، وبين توجسه، وماذا تُخبئ الأيام لهن.

كم من الوقت حتى تصلين إلى المحطة؟ يسألها إبراهيم

لم تُعطِ رسالته أيّ اهتمام، وفضلت عدم الرد عليه لبعض الوقت، لكيلا تُشعره بلهفتها..

لا زالت تُعاني من شخصيته غير الواضحة، وتقلباته في التّعامل معها، تهمس في داخلها: وماذا سأفعل مع هذا الزّوج النّرجسي، الذي لا أستطيع التّكهن بنوعية تصرفاته، وأساليبه المُختلفة، كاختلاف اللّيل والنّهار.

وبعد مُضي قرابة النّصف ساعة أرسلت إليه، تخبره بأنَّها ستصل إلى المحطة في غضون ربع ساعة، وإذا به يُخبرها بأنَّه في المحطة، ينتظرها..

وأخيرًا وصلت الحافلة إلى المحطة، بادرت الطالبات بالنّزول، والفرحة تغمرهن.

تفاجأت حنان بأن والديها قد حضرا لاستقبالها، تعبيرًا عن فرحتهما بتخرجها، ما إن أبصرتهما حتى هرولت إليهما، فكان العناق الفرحة الكبرى، التي شعرت بها حنان، والدّموع سفينها إلى نبضاتهما الدافئة.

ياسمين تنظر في الزّوايا، كان إبراهيم، ينتظرها خارج السّيارة، لوح لها بكلتا يديه، والابتسامة، تعلو شفتيه، توجهت ناحيته، تناول الحقيبة من يدها، وتحمد لها بالسّلامة، وتوجها إلى الشّقة، وكالعادة كان الحديث بينهما مُقتضبًا، التزم إبراهيم الصّمت، قاصدًا الانشغال بقيادة السّيارة، كي لا يتحدث معها، إلا بكلمات بسيطة رفعًا للعتب.

وكانت المُفاجأة، التي لم تتوقعها ياسمين، أو تخطرببالها، المُفاجأة، التي كانت تُخيطها في سلّم الأمنيات المُتعطشة، لتشعر بعاطفته، اهتمامه، وأنها من أولوياته.

إن العاطفة لدى المرأة، تُعد اللّون اللامع في ذاتها، ولكن ثمة فهم خاطئ في التّعامل معها، العاطفة لديها لا تعني سكب الكلمات العاطفية، التي تُلامس المشاعر والأحاسيس، والتي لها دورها الفّعال في العلاقة الزوجية، وتمنح الدّفء فيها، ولكن التّعبير عنها في التّصرفات الحياتية، يأتي جوهر العاطفة، كالاهتمام بالشّريك، ومنحه الجزء الأكبر من الوقت، الحديث معه عن شُؤونه، أحلامه، أفراحه، أحزانه، أن يكون الشّريك الملجأ، والبلسم، والوسادة، التي تحتضن الرُوح.

الأنوار مُزدهرة، يكسوها طفيف من ظلام، يجعلها جميلة أكثر، رائحة المكان، تشي بالبهجة، تسمّرت ياسمين في مكانها، لم تستطع الحراك، فقط تنظر إلى عينيّ إبراهيم، تُريد أن تبكي من فرط سعادتها، لم تستطع البكاء، عيناها الواسعتان، تُسافران إلى عينيه، لتهمس في أذنيه بأن هذا المساء من أجمل اللّحظات في حياتها، فتحت ذراعيها، احتضنته.

لحظة احتضان القلب، والشّوق، يُزاحم النّبضات، تأتي، كرغوة الماء الدافئ في شتاء قارص، يسكن الذّاكرة، ويبعث الأمل، والرّاحة في الإنسان.

خرجت ياسمين من حُجرتها، لتقُوم بإعداد عشاء بسيط؛ لأنها مُتعبة، وللتو تستريح من سفرها، لتتفاجأ مرة أخرى بما تراه من مائدة، تتزين بالشهي من الطّعام، صحن من المشويات، وفي جانبه مشروبات غازية، ومُقبلات، ابتسمت، عانقت أصابعها، وضعت يديها على وجنتيها، تضحك، كالأطفال الصّغار، عندما تصلهم لعبة، لم تكن في الحسبان.

في داخل ياسمين طفلة، تأنس بها، ولا تنفك تظهر هذه الطّفلة إن احمرت وجنتاها، لأيّ حدث تُصادفه، إنها تُعبر في كتاباتها عن كُلّ ما تراه، إلا أنها في الواقع، ينتابها الخجل، ومن لا يعرفها قد يصفها بالخجولة، إن أحسن الظن بها، وآخر، سيصفها بالمغرورة، إن لم يُحسن الظن بها.

يبدو أن هذه الطّفولة، وهذا الخجل في البوح واقعي في الحياة، يجيء أمر قد يعيشه البعض من الكتاب، لا لأن الغرور، يُعشش فيهم، ولكن لأنهم تصالحوا مع أنفسهم وأفكارهم، لأنهم يعيشون عالمًا آخر، هذا العالم لا يُشبه الواقع؛ لأنه يأخذهم إلى شاطئ أفكارهم، إلى التعتق في استجداء الفكرة؛ لأنهم يملكون عاطفة، تُشبه البُكاء، لأنهم يغرسون الأمل بذرة، ترتوي من تطلعاتهم، لأنهم يشعرون بالغُربة، تُبصرهم، تُصغي، تقرأ لهم، يستفزك الفُضول لاكتشاف السرّ في هذا البوح.

انقضى المساء، ليبزغ الفجر، وياسمين لا تسعها الدنيا من الفرح، فإبراهيم لم يخرج من الشّقة، كعادته، يتركها بالسّاعات وحيدة، قضى دقائق اللّيل كله معها، منحها كلّ الاهتمام، أغدق عليها مشاعره، أصغى إلى حكاياتها، إلى تفاصيل حفل التّخرج، إلى حياتها المُستقبلية، كان يُصغي لها بلا ملل، فانتعشت، تتحدث بعفوية طفلة، كأنها تُريد أن تستغل هذا الوقت، لتُفرغ ما يُعذبها، ويُشغل تفكيرها، هذه الكتمة النّفسية، هذه المشاعر السّلبية، التي ازدادت، مما جعلها تنفر من ذكراه، من حُروف اسمه، من كلّ ما يتعلق به.

لا زال إبراهيم يُصغي..



error: المحتوي محمي