على وقع ارتشاف “استكانات” الشاي أنتشي لذة بحلو الكلام، بين أحاديث تأخذني ذات اليمين وذات الشمال، حكايات سفر ترفعني علوًا كطائر يرفرف بجناحيه فوق الغمام، كلمات شدو يفوح عبيرها وسط جنائن فريق الأطرش.
أصيخ السمع للأحبة فتتسلل صور الأمس على ألسنتهم، حية ناطقة وكأني بذاك الأنس رجعت صبيًا، ألهو بين الزرع وأغصان التين والرمان، أنشد الخطو عبورًا بين “الضواحي” المخضرات كموجات بحر تتراقص، أغمس أقدامي واليدين في ماء “السمط” وبقربي عصافير تتقافز وتشرب، وعلى الأغصان بلابل تغرد، حفيف السعفات والظلال تتمايل في حراك، تناغيها خيوط الشمس راسمة بقعًا ضوئية، ومعها تبرق المناجل المطوحة قيامًا وقعودًا باشتعال الكفوف حصادًا، هبوب نسمات عليلة والندى ينساب على ثمار الجيمبو واللوز والكنار، رائحة أشجار الليمون والريحان تعبق بالمكان، مناظر تسر الخاطر، تنعش الروح، تشرح الصدر، تخلب الحواس، جسد يتجلى صفاء وحبورًا في حضن الجنائن.
كلما غربت شمس على معامير فريق الأطرش استذكرت رجالات من عمروها سنين، لا زلت أسمع هسيس تراب خطوات أرجلهم، رحلوا وما رحلوا، أطيافهم تطل من بين السعفات وعذوق الرطب.
أقبل الليل بنسائم الشتاء الباردة والتصورات مفتوحة على الزمن الجميل بأحاديث جارية على ألسنة أبناء الفلاحين، رفقاء مزرعة ابن خالتي مهدي الصفار، لاحت سويعات الأصيل فدقت أجراس الذكرى بأصوت المناداة: “أبو جاسم نفعت الحياوين”، “أبو علي حطيت العومة في المطعم أبو عباس جزيت باقي الضاحية” “أبو مهدي حدرت لعذوگ”، “أبو حسن لميت لسكار”، “وأبو حسين چنزت التمر” آه وألف آه على أصوات الكد وسواعد “المرجلة” خلقوا لعمار الأرض، زرعوا ما طاب لهم من كل لون بهيج، وهبوا العمر سعادة بحي على خير العمل يستحمون في العيون ويفركون أبدانهم بليف النخل، وعلى وقع صوت أذان المغرب، تلهج ألسنتهم بالاستغفار، و”النحنحة” صدى ليوم حافل بالإنجاز “من غبشة الصباح إلى وقت سلوم الشمس” علامات الرضا مرسومة على وجوه أهل الطيبة والمعامير برد عافية.
المتعبون يشدون الگاري على ظهر الأتان، تمشي بهم الهوينى، هي المطلب لكل فلاح، دابة مستكينة هادئة ونهيقها أقل حدة ونبرة من الذكر، تأخذهم دون جلبة نحو الحضرة والمزارع وعند عتبات الدار، الفلاحون من كبار السن “الشيبان” لا يحبذون الحمار يرونه مزعجًا متمردًا، “لا يركد، طايش” فضولي وشبق بشكل عنفواني، يوجع رأس صاحبه، بمجرد أن يشم رائحة الأنثى تمر من أمامه، أو يرمقها من بعيد يجن جنونه! يكون خارج السيطرة، بل يقوى عزمه وإن كان خائر القوى!.
يحدثني الشاب علي عبد الرسول آل حاجي، الذي يقوم حاليًا على زراعة الجزء الشرقي من نخل “لفلية”-المقسم إلى ثلاثة أقسام- وعلى مقربة من ظلال نخله سرد لي موقفًا حصل له في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، بينما هو راكب فوق جحشه يقطع بحر منطقة المحيسنيات من أجل البحث عن المحار “لمنجى”، ضل الدرب نظرًا لبدء قدوم المد، فغطى الماء كواحل الحمار، وأيضًا علامات البحر من جريد النخل “لطرافه” التي تهدي الناس لمسار العبور قلعت بفعل الأمواج، فضيع الشاب الاتجاه الصحيح المسمى “المدوس” سلك دربًا آخر وواصل المسير على غير هدى، وفجأة وقع به جحشه في حفرة طينية يطلق عليها “المنادي”، غاصت جميع قوائم الحمار كاملة إلى حدود بطنه وحسب تعبيره “حماري هلچ، لزق بطنه وأياديه ورجايله كلها راحت في الأرض” قفز من فوق ظهر الحمار حاول جره وسحبه بكل ما أوتي من قوة فلم يفلح وهو يردد “ويش هالوهگة ويش هالشنوكة اللي صرت فيها” مشيرًا لورطة وقع فيها وكأن كمين نصب له، راح يشكو حاله ويتأفف باذلًا أقصى جهده حتى أعيته جميع الحيل، توقف بعد أن دب اليأس والموج يتعالى، خاف على حماره فالمد في ارتفاع واحتمالية أن يغرق في مكانه ويرجع دونه، راح يدعو ربه “يا مسهل يا كريم أخرجني من هذه المحنة واحفظ لي حماري”، دعوة وصلت أصداؤها لقادم من البر إلى البحر، لمحه الشاب المرحوم “حسين جليح” وهو على متن حمارته، هب إليه ماخرًا عباب الموج المتصاعد، وبعد التحية والسلام، قال له هون الأمر أستطيع إخراج حمارك بسهولة من دون عناء ولا يحتاج أن تدفعه، صبرًا وبالله المستعان وعلى مهلك، وقف آل حاجي ينظر ماذا سيفعل؟
قام “جليح” بإرجاع حمارته وجعلها تمشي للخلف وقرب مؤخرتها أمام وجه الحمار المنهك بمسافة مترين تقريبًا، ثم أخذ الشاب حسين يصدر إشارة صوتية “يؤرئر”، نغمة تفهمها الحمير “أررررر، أررررر، أررررر”، وبينما هو يكرر سرعان ما توترت مفاصل الحمار وانتصبت عروقه، استنفرت كامل قواه، فز منطلقًا خارجًا من الحفرة المائية كعزال يفر من مطاردة عدو، قبضت يداه على ظهر الأتان وبدأت معركة حامية الوطيس تفتقت أسارير النشوة واللذة الجسدية، مع هبوب نسمات البحر المالحة ورائحة “الگرم”، النوارس شواهد والعيون نواظر.
إنسان هذه الأرض وعبر تجارب السنين يعرف أبعاد سلوك الحمير وطبيعة غرائزه وساعات فضوله.
ذلك المشهد أدخلني في ذهول وسط مزرعة الحاج علي منصور الصفار -القائم على الجزء الغربي من نخل لفليه- نظر لتعابير وجهي، وهو يقهقه ويقول سلني عن “دوشة الحمير ولهفتهم إذا شموا الأنافي”!
عدد لي مشهدًا تلو الآخر، وهنا من الصعب بسط كل ما قاله أمام الملأ، وإن كان المقصود هو الحيوان، سأكتفي بعرض مشهد واحد ومختصر جدًا، للدلالة على قوة الشم التي يتمتع بها الحمار وتخزين خرائط الأمكنة في ذاكرته، فيأتي للمكان
المراد الذي يبغيه وكأن في رأسه بوصلة!
فر حمار من نخل الحليبي قاصدًا “نخل لجويزرة” المفتوح من جميع الجهات دون سور، وصل لمكان مر عليه قبلًا، فعرف بوجود الأتان التي تعود ملكيتها للحاج عيسى أبو حسين، كانت مربوطة بجذع نخلة أغلب الأوقات، أقبل عليها الحمار الهائج، فأنهى المهمة الأولى وراح يستريح ليسترد أنفاسه ثم عاود الكرة، برغم شدة الصيف والرطوبة العالية، لم يبال بحرارة أطفأ لهيبها من ثمانٍ إلى تسع مرات.
وحسب وصف الحاج علي منصور الصفار حيث “حوشهم”، أي حظيرة الأبقار والأغنام المشتركة بينه وبين أبو حسن آل بدر، في ذات المكان، يقول: “گزر ذاك الحمار نهاره وهو على هالشاكله وأنا ويا علي آل بدر نراقبه مستعجبين من قوة هالحمار، في العادة يضرب الحمار نفيته بين ثلاث أو أربع مرات ويكتفي إلى حين يوم فإني يعاود رغبته من جديد، لكن في يوم واحد مثل هالحمار ما شفنا، واحنا سنين ويا الحمير وعارفين طاقتهم، إي والله، لا إله إلا الله، ينظر كل واحد منا ويتفكر في مخلوقات الله، كيف خلقت ويش هالقوة عند بعضهم ما هم زي بعض، يختلفوا في التضريب والشغل والعداوة”!
موضحًا حالات التباين لدى الحمير مقارنة بالحيوانات الأخرى، وبحسب النوع والعمر وطبيعة الجسم، تمامًا كاختلافهم في تحمل جر الأثقال وسرعة الانطلاق بين حمار وحمار.
سبحان من أودع الغرائز في مخلوقاته لحفظ كل نوع من الانقراض، نرى الأسراب بلا عدد محلقات في السماوات وعلى الشواطئ وأغصان الشجر، وقطعان الحيوان تتكاثر على امتداد أرض الله الواسعة، وكذا مجاميع البشر موزعين في جميع القارات، تلك الغريزة الشهوانية، سر من أسرار خلق الله!.
ذهبت لمزرعة مهدي الصفار ابن خالتي فقصصت المشهدين فضولًا أمام الجلاس لعلي ظفرت بموقفين قد لا يعلمون عنه شيئًا حسب ظني، لكنهم قابلوني بابتسامة تلقائية ورحابةصدر، أدرك أنه لا جديد عندي أقوله في حضرتهم، لكن من باب المسايرة واستجلاء خزين ذاكرتهم، ثم أدخلوني من قصة تلو الأخرى، هالني ما سمعت على ألسنتهم، رسموا لي مساحات الشبق اللا متناهية عند الحمير، وأوصاف رحلة الغرائز وكيفيتها وطرق درجاتها وأساليب التأصيل، لكن مراعاة للذوق العام تجنبت الإفصاح عما وصفوه!
الأصحاب علقوا على سردي المسبق حول حكايات الحمير الهاربة لماذا تأتي تحديدًا لمزارع فريق الأطرش، لأنهم قرؤوا ما كتبته حول مشاهد إرهاب الحمير للناس وشيطنتهم تجاه الأطفال فقط، لكن في الأمر شيئًا آخر.
قالوا لي إن الحمير تأتي لمزارع الشمال لهدف وغاية ليس مجرد حالة توهان عمياء، يأتون على علم وبصيرة، لا يبحثون عن الطعام بل يفتشون عن جنسهم الآخر، يستدلون على المكان بمجرد وصلوهم ولو مرة واحدة تراهم يضعون في رؤوسهم اتجاه البوصلة. معلوم أن جل الفلاحين كل واحد عنده “الأتان” نظرًا لهدوئها أكثر من المضني الحمار المملوك عند أهل الحمارة الذين يفضلونه على الأنثى لقوته الجبارة في تحمله بجر أطنان الحمولات، عكس الفلاح الذي يحبذ الأنثى على الذكر لأمرين، بحثًا عن الهدوء والراحة أثناء الغدو والرواح والقيام بالأشغال البسيطة والحمولة الخفيفة، وأيضًا الاستفادة في حالة حملها فسوف تنجب مولودًا بعد حين، ينتفع به استعمالًا أو بيعًا.
تلك حمير هاربة من أصحابها دون علمهم، ذكور تأتي كالمجانين تدخل من نخل لآخر فاتحة مناخيرها “تتشمم” ريحة الأنثى لإشباع غريزتها العطشى! وإذا لم تجد ضالتها تصبح عنيفة ومؤذية، أحيانًا يلجى بعض رجال “الحمارة” بخصي الحمار،-وهم قلة- ليتخلصوا من فوضويته، يهدأ تمامًا لانتفاء حاسة الشم الغريزية من جسده، لكنه يفقد شيئًا من خاصية التحمل ومع الوقت يقل عزمه على الحركة والمسير، وقبل هذا وذاك يصبح بلا صوت بلا نهيق!
ما حال هذا المخلوق العجيب حين تنهشه الغيرة وتتعالى روح التحدي، ويسيطر عليه الحقد تجاه بني جنسه، كيف تصفي الحمير حساباتها مع بعضها بعضًا، نهيق يتعالى عما هو مخبأ!
تأخذني خالتي زليخة لمشهد عالق في ذاكرتها حول حدث رأته بأم عينيها قبل 55 عامًا، ومسرح الحكاية زريبة بيت والدها وخيلانها بفريق الأطرش.
يا لها من بشرى عمت دار آل زرع، لصبح أطل بالفرح بخبر ولادة بقرتين، خالتي الصبية مع بنت خالها تصفقن بهجة وترددن “عندنا بقر فنتين حمران جابوا عجلين” تراقب زليخة أمها وزوجة خالها “مشيقرية” كيفية حلب البقرتين اللتين ولدتا فجرًا، في الزريبة الملاصقة للبيت من الجهة الجنوبية، مسورة بسعف النخيل تحاذيها مباشرة زريبة بيت الحاج عبد الرسول المعروف بأبي علي البيابي.
تقسيم خدمة عوائل آل زرع داخل نطاق “البيت العود” كل يومين على امرأتين، بين طبخ وكنس وإطعام البهائم، صادف يوم ولادتي البقرتين كان الدور على جدتي “ليلى” وزوجة أخيها “مشيقرية”، إنه يوم مشهود ليس على نطاق العائلة بل مجتمع فريق الأطرش.
الذاكرة تقول يوم ولدت بقرتان لبيت آل زرع، حدث ارتحال لم يكن في الحسبان.
تأوه ووصف مشهد على لسان خالتي زليخة: بعدما انتهت أمها وزوجة خالها من حلب البقر استندتا على الجدار المقابل للزريبة، استراحة قصيرة لاسترداد الأنفاس، لحظات وإذا بحمار بيت البيابي المعروف بـ”قضبة” يحطم سور السعف الفاصل بين الزريبتين ويتجه كمارد من نار مباشرة لحمار يدعى “مليفي” التابع لخال والدتي حجي عبد الله زرع، وهو المربوط وراء البقر بحبل مشدود بقطعة حديد مثبتة في الأرض، يفتح “گضبة” حنكه عن آخر ويقبض بأسنانه رقبة “مليفي” ومن حرارة لهيب الألم تمكن الأخير من عضه في يديه -قوائمه الأماميتين- ارتما الاثنان أرضًا وتطاير الدجاج بصياح وزاد ثغاء البقر وحسب وصف خالتي: “هذاك عاضنه في الرقبة چاعسنه، وهذا عاضنه من عراقيبه معرقلنه”، حمي وطيس الحرب حتى زحفا عند المدخل المؤدي للبيت، تصارخن النسوة، أين المفر؟ ونادى عليهن أهلهن وجاراتهن بأن يلتجئن “للزرنوگ” باتجاه الغرب الملاصق لبيت “الشاووش” فتسللن والخوف يسبقهن فخرجن سالمات، لكن جدتي ومشيقرية تشجعتا ودخلتا ثانية لحماية البقر ووضعهم في زاوية الزريبة بعيدًا عن دوس المتصارعين الملتحمين جسدًا وهما يزحفان ويتقلبان على امتداد محيط الزريبة! وبسرعة رهيبة توجهت خالتي برفقة بنت خالها -أم حسين العباس- لنخل “خليف” وصلتا ركضًا، وأخبرتا رجال البيت “يا خيلاني لحقوا علينا الحمير يتگاتلوا، أبوي حمارك مليفي شابگنه حمار گضبه حق بيت البيابي كما يگتله سرعوا يالله بالعجل”.
كل ترك عمله، هبوا جميعًا للزريبة التي أصبحت ساحة معركة، وصلوا ليفكوا الاشتباك الضاري بين المتصارعين، “هذا مچعوس وهذا عاقر له”، بصعوبة بالغة وبشق الأنفس تم تخليصهما من بعضهما بعضًا، لم يقو حمار بيت البيابي على الوقوف فقد تقطعت يداه وبان العظم والدماء تنزف على أرضية الروث، زحفوا به وألقوه داخل زريبته وهو يأن ويتألم.
حين رأت عائلة البيابي ما حل بحمارهم فزعوا
لمنظره الذي بات شبه محتضر، بضعة أيام
وفارق الحياة!
قالوا لأخوال والدتي سنتقدم بشكوى في الشرطة ضدكم! مفادها: “حماركم قتل حمارنا، ولازم تعوضونا”، جاءهم الرد: “اشتكوا، ترى حماركم هو اللي نط من زريبتكم وجاء لزريبتنا واعتدى على حمارنا، وهذاكو عطله وينازي ومايندرى يعيش لو ما يعيش”، صرف النظر تمامًا عن تقديم الشكوى!
ظلت رقبة حمار “مليفي” مشوهة ومتقرحة و”متهطلة” متدلية على جنب، تقطر دمًا وصديدًا، قام الحاج عيسى حيان بكي الجرح الغائر لعل وعسى يشفى، لكن دون فائدة، اصبح هذا الحمار الذي كان يومًا شبه الجمل من طوله الفارع وصلابة جسمه، هزيلًا يسحب أرجله سحبًا لا يقوى على الحركة جالسًا خاملًا في الزريبة يتكالب عليه الذباب والحشرات! بقي لمدة يومين مستلقيًا على جنبه ليس له قدرة حتى على الأكل وصبيحة يوم رطب أغمض عينيه للأبد.
ولدت بقرتان في زريبة آل زرع في وقت واحد، عم سرور بقدوم عجلين، لكن شر تخفى خلف
السور المقابل، ليسرق الفرح، دارت رحى معركة الحمير فجأة ودون سابق إنذار،كانوا قبلًا يعيشون بجوار بعض في أمن وسلام.
ما السر الذي جعل حمارًا يهجم على أخيه وتدور الحرب بينهما؟ جواب معلق ومشتبك مع حكاية أخرى.
يتقلب الكلام دقة وتفصيلًا ويتقاطع الرواة
لحدث عالق في الأذهان، ضجيج نهيق يتصاعد كل يوم، من مكان يقع على مرمى حجر من بيوت “الدشة الشمالية” بتاروت، العابر شمالًا عن يساره منزل والد ملا محمد الوحيد، وعن يمينه حظيرة تحوي مجموعة من الحمير بعرباتها “الگواري” لمقاول النظافة الحاج عبد الكريم اللباد شخص من العوامية، أسندت إليه بلدية تاروت تنظيف الحارات والطرقات ونقل الأوساخ من “السمادة” الموزعة في كل حارة وبلدة، ثم ترحل للمكب الأخير المعروف “بالمحرگة” الواقعة شمال غرب مسجد الخضر ساحة مكشوفة إلا من بعض نخيلات.
في أحد الأيام أثناء خروج حمير اللباد من الزريبة وعددهم خمسة حمير، اشتبك أحدهم مع حمار عابر، وتمكن من عضه في “عراقيبه” اليدين أي قوائمه الأماميتان فأرداه أرضًا بجوار جذع نخلة يترنح ألمًا. اللباد انطلق مع عماله وحميره في رحلة التنظيف اليومية، أما صاحب الحمار المصاب أخذه وطبطب عليه عاقدًا النية على ترحيله من الجزيرة، تخلص منه بيعًا في سوق القطيف بسبب شقاوته الزائدة وعداوته الشرسة.
وبعد مرور ثلاثة أيام على بيعه شوهد الحمار راجعًا من تاروت وفمه ملوث بالدم، وبعد التقصي والتحري، لقد جاء من القطيف بعد أن فك رباطه فجرًا وقطع مسافة طويلة بما فيها “المگطع” البحري، ثم وصل وهو مشحون بروح الانتقام إلى مكان زريبة اللباد مهشمًا الباب البسيط، واندفع نحو الحمار الذي أصابه سابقًا فاتحًا حنكه عن آخره قابضًا بغضب على عراقيبه، انغرست الأسنان في اللحم، وتلونت الشفاه بالأحمر القاني، وارتطم وسقط على أجساد الحمير الأخرى فما كان من الحمار المهاجم إلا الفرار والرجوع إلى صاحبه في القطيف.
حين رأوه “القطاعة” على مقربة من البحر والدماء تصبغ “مناخيره” كاملة ظنوه معتديًا على إنسان،
حكى صاحب الحمير “اللباد” بأن أحد حميره الخمسة أصيب بجرح غائر جراء عضة حمار حادة، عالجه بالكي ولم يطب أصبح عاطلًا عن العمل!.
ما سبب هذا الغل المخبأ عند الحيوان؟ وما مساحة الضغينة المضمرة؟ وكيف لحمار أبعد عنوة بسبب شقاوته يأتي من بعيد ويختار حمارًا واحدًا الذي اشتبك معه سابقًا ويعرفه بالتحديد، يهاجمه وسط جموع الحمير ولم يخطئ لا في اختياره ولا في لحظة افتراسه، ويفر سالمًا من الأذى!
حمير تقرأ الوجوه وتعرف خارطة الأمكنة ولها من الفراسة ما لايخطر على البال، ترى ما لا يرى، ثمة سطور مؤجلة ستحكي عوالمها الحدسية على ألسنة من آنسها عشرة وألفة لسنين خلت.
دروب الزرع مقفرة،
لا صوت حفيف ولا خرير،
رفاق الكائن الأبيض غادروا بأكفانهم،
ولم يعد الزمن زمنًا،
لا صدى نهيق يسمع،
ولا ظل “گاري” عابر،
لا أتان تنتظر عند نخلة
ولا حمار يتغزل،
حنين التزاوج قبر
لا شوق ولا عطش،
لا رائحة طلع ولا عبق زهر،
لم يعد الصبح صبحًا
ولم يعد الهواء عطرًا،
يحكى أن، كان لنا يومًا
جنات نخل على مد البصر، أبيدت ولم يبق منها غير النزر اليسير،
تعاني الظمأ، وكلنا عطشى لفراديس الأمس، هل سنشهد غدًا تشييع آخر نخلة ونعيش على ذاكرة
من رحلوا!