رويَ عنِ الإمامِ الصادق (عليه السلام) أنّه قال لرجلين تخاصما بحضرته: “أما إنّه لم يظفرْ بخيرٍ من ظفرَ بالظلم) (وسائل الشيعة ج 16 ص 49).
حضور الإمام الصادق (ع) التبليغي والإرشادي لم يكن مقتصرًا على بث الأحكام الشرعية المختصة بالعبادات بالمعنى الخاص ولا جامدًا على تبيان المضامين والمقاصد الشريفة للآيات القرآنية، بل المنهج التربوي للإمام يشمل صياغة شخصية الإنسان على مستوى جوانبها المختلفة وتنمية الضمير الإنساني كرقيب على ما يتفوّه به المرء وما يفعله، والجانب الأخلاقي وطريقة التعامل مع الآخرين بالحسنى نالت الكثير من التوجيهات والتوصيات الصادرة عنه (ع)، فالتدين العبادي – بمفهومه الخاص – يتناول التزام المرء بأداء الصلاة والصوم وبقية الفرائض الإلهية والاهتمام بإتيانها وفق الأحكام الخاصة بها، فكذلك التدين الاجتماعي يعني حضور حالة الورع والخوف من الله تعالى في كل مواقفه وتصرفاته، فما فائدة التدين إذا انفعل المرء فنزع ذلك الرداء وقناع التقوى لينطلق من لسانه أقذع الكلمات وأبذأها، وحمل فؤاده تبعات الخصومات فامتلأ بالكراهيات والأحقاد، فالاختلاف وسوء الفهم والإساءة غير المتعمّدة قد تصدر كثيرًا من خلال الاحتكاكات والتعاملات اليومية، والاتجاه بها باستمرار نحو معمل المشاعر السلبية سيعود بأضراره على الفرد والمجتمع، فإن التجاوز على الآخرين والتعدي على شخصياتهم بأي شكل من العدوان لن يجني منه الفرد خيرًا ولا منفعة كما يتصور البعض واهمًا، فإن ظلم الآخرين والاستطالة عليهم واستضعافهم يعني وقوفه في وجه العدالة الإلهية التي تتصدى له بجند لا حد لعددهم ومن حيث لا يعلم.
والإمام الصادق (ع) يعلّمنا طريقة حل الخلافات والخصومات بمنطقية وعقلانية بعيدًا عن العواطف والتهور، إذ أن حدوث الخصومة يعني وجود لبس ونقطة خلاف تتباين فيها الآراء ووجهات النظر، ولابد من التعامل معها بحرفية ودقة من خلال الاستماع لرأي كل طرف وإفساح المجال له للتعبير عما يجول في خاطره، ومن ثم تبدأ خطة العلاج وفك الاشتباك عن طريق المرجعية الرشيدة للدين والعقل والوصول إلى الحلول الممكنة والمرضية.
ويحذر الإمام (ع) من جذور الخصومة الراجعة إلى اتخاذ سبيل الظلم وصولًا لتحصيل المصلحة، فالعدالة الاجتماعية ومراعاة حقوق الأفراد واحترامها أساس يحفظ العلاقات الاجتماعية مستقرة، إذ لو انفتل المرء من لجام العقل وتحكم فيه هواه لأدّى ذلك إلى تحويل المجتمع إلى غابة يتسلط فيها القوي على الضعيف ويحتال في نهب ممتلكاته والتعدي على شخصيته، وبذلك تنتهي الحياة الكريمة والفاضلة التي هُيئ الإنسان لإعمارها وتنميته تحت معيار العقل الرشيد والسلوك المتزن، وأي عيشة يرجوها وقد فقد إحساسه بالأمان والاستمتاع باللحظات الجميلة وسيطر عليه الخوف من هجوم الذئاب البشرية، فالظلم والبغي الاجتماعي تتمظهر حالاته في المجتمع بمظاهر كثيرة يسود فيها الأقوى ويسحق الضعيف، وتسلط وتجبّر الرجل على المرأة في العلاقة الزوجية أو الحقوق المالية كالميراث وغيرها، ولك أن تتصور ما يجري في المحيط الأسري من ألوان الظلم بسبب اختلاف حول أمر معين أو إساءة غير مقصودة، فيحولها البعض إلى خصومة عمودها الفقري الظلم والتعدي بكافة أشكاله، فبعض الأزواج يتخذ من المصروف المالي وسيلة ضغط ترضخ عندها المرأة الضعيفة ويمارس عليها التنمر والعدوان والقهر، فكم من امرأة قد جف نهر العاطفة عندها بسبب الجفاء والحرمان من زوجها وبخله ولو بكلمة طيبة ورقيقة، أفلا يعد ذلك ظلمًا يحاسب عليه المرء يوم القيامة؟!
ومن صور الظلم الاجتماعي ما نجده في المحيط التعليمي وتحول بعض المعلمين من أب روحي يأخذ بيد طلابه نحو التقدم والرقي الدراسي والأخلاقي إلى صورة مغايرة تمامًا، فيحوّل العلاقة مع الطالب المجد أو الضعيف دراسيًا إلى خصومة وشخصنة العلاقة، فلا يخاف الله تعالى ولا يبالي بظلم ذلك الطالب بسبب موقف أو أي أمر آخر، فيتحول الموضوع إلى شروع في إيذائه وتوجيه الكلمات القاسية له أو تجاهله في الصف.