ميّت الأحياء

إنَّ من منطق العاقل الحكيم هو مَن يُشخِّص الداء، ويتعرَّف على الدواء، من باب استقراء المرض واستنباط أو استنتاج العلاج، وهنا لا بمعنى اختراع التشافي من الطبيب المعالج لأنه قد يكون مكتشف الدواء غير من قام بالتشخيص إنما إثبات صحة التداوي بالعلاج قائم على التجربة، في فاعلية التشافي بإذن الله تعالى: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِيْنِ). فلا يصح أن تأخذ العلاج ممن يدّعي المعرفة الطبية دون الرجوع للمتخصص المحض.

لذلك تجد مرض الجهل هو القاسم المشترك لتفشي أعماء العقل عن فطرته الصحيحة لأن ادعاء المعرفة أشد من الجهل لإنهاء آفة ومفتاح الباطل ودرب الشر، ويكمن في تسطيح مَلَكة العقل في التفكير، لكن أسوأ أوجه الجهل وأدنى أقسامه، وأبشع صوره هو الجهل المركب. وبيّن الشيخ المظفر (المنطق ص19) الجهل المركب: [هو] أن يجهل شيئًا وهو غير ملتفت إلى أنه جاهل به، بل يعتقد أنه من أهل العلم به، فلا يعلم أنه لا يعلم، كأهل الاعتقادات الفاسدة الذين يحسبون أنهم عالمون بالحقائق وهم جاهلون بها في الواقع. ويسمون هذا مُركّبًا، لأنه يتركب من جهلين: الجهل بالواقع والجهل بهذا الجهل، وهو أقبح وأهجن القسمين. ويختص هذا في مورد التصديق، لأنه لا يكون إلا مع الاعتقاد.

وإنَّ الجهل المُركّب يكون عند أُناس؛ الذين خرجوا قليلاً من بساطة العوام، وتقحَّموا في الجوَلان في ميدان العلم، بأقدام مرتعشة حتّى في مباديه، فهم يُقلقون العالم، ويشوّهون العلم، تارةً بالتقليد الأعمى في المسموعات الموافقة للأهواء، وتارةً بالوسوسة والتشكيك في كلِّ شيءٍ، بل تجدهم يدافعون عن فكرة لا وجود لها وإنما تَعنت لفرض الجهل بالقوى. الجهل المركب مانع من قبول الحقِّ والرجوع إليه، بل يصل الأمر بالجاهل المُركّب إلى معاداة العلم وأهله، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قوله: “بالجهل يُستثار كلّ شرٍّ”. لذا الجهل المُركّب يُميت القلب، وقد عُبِّر عن المصاب به بـ(ميِّت الأحياء).

المبتلى به أجهد زمانه وزاحم مكانه في جهل لا يغنيه يظلم من خالطه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تمييز وحماقة بلا تروٍ. معطل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال تعالى(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).



error: المحتوي محمي