هُناكَ عَددٌ مِن المِهَن الإِنسَانيةِ المُناطَةِ بتقدِيم أسمَى رِفْدِ الخَدَمَات والمَنافِع البَشرِية الأَولِية مُباشرةً، لكَافّة أفراد المُجتمع الإنسانِي برمّتِه، المُستفِيدين، حَيث تَتصدّر “رِسالَة” التعليم السامِية في صُلب بِنية أهدافِها المَجِيدة؛ والراقِية في تَجسِيدِ مَسيرة مَرامِيها العظِيمة، في مَحفَلِ سِجلّ قائمة تِلك المِهن المُنصبّة في إسدَاءِ العِنايةِ؛ وتقدِيم الرّعايةِ المُتاحَتَين للمُتعلّم، مُنذ نُعومَةِ أظفارِه، كالرّعايَة الصحِية الشامِلة مَثلًا… فرِعايةُ الطبِيبِ، وعِنايةُ المعلّمِ المُتزامِنتَين مَعًا، كانبساط وامتداد راحَتي اليدَين الرحِيمتَين الحانِيتَين؛ لاحتِواء واحتِضان، ورِعَاية الإنسان، في سَلامَة ولَياقة مَراحِل نُموّه الجِسماني؛ وفِي صَحوَةِ فترات أشُدّ نُضجِه الجسَدِي؛ ويَقظَةِ بُلوغِه الفِكري؛ ليُواجِه، بحَزمٍ وعَزمٍ، مُتطلّبات؛ ويُواكِب، بشَجاعةٍ وبَراعة، أدوار مُستقبلِه الزاهِر النضِر؛ ويَتمَاشَى مَزهُوًا مَعها- جَنبًا إلى جَنبٍ- في سَائر مَراحِل سَنوات عُمرِه المَدِيدَة المُعَاشَة…
هَذَا، ولَم تكُن مْهمّة المعلّم المُعاصِر، سَهلةً مُيسّرَةً، مُنحصِرَةً في تَلقِين مُوضُوع الدرسِ المُستهدَفِ فَحَسب، كَما كان الأمرُ مْتّبعًا في ذِهنِية “الكُتّاب” القُدامَى… بَل تَتعدّى أهداف المَهام الطلّابِية التربَوية المُتجَدِّدَة إلى تَوظِيفِ وإشْراكِ كامِل حَواسِ المُتعلّم المُتيقّظة؛ وإِقحامِها في عَملية التعلّم الأَولية الشامِلة المُثلى، قَدْر الإِمكَان؛ وإِتاحَة النصِيب الأكبَر مِن جُلّ وَقتِ الدرس الجاذِب؛ لتَفاعُل التلامِيذ… وفَي وَسط فعاليات أنشطة الانخِراط الذاتي النشِط، في مُعترَك المشاركات الجماعِية، وفي هَطلِ مِدرارِ مُختلفِ الأنشطةِ الذهنيةِ الرامِيةِ إلى إحداثِ تعدِيلٍ إيجابيٍ، في سُلوكِ الفرد؛ بُغية تنوِيع وتسرِيع عملية التعلّم المأمولَة… يَسبِقها إعداد المعلّم إعدادًا أكادِيميًا، مُسَلَّحًا بأحدَثِ المَهارَات المِهنِية التَدريسِية؛ وأنجَعِ الأساليب والطرائق التَطبيقِية المَيدانِية؛ ومُتابَعة صَقل خِبراتِه القَبلِيةِ لَاحقًا، عَن طَريق برامِج الدورّات التربوية التدرِيبية، ووُرَش العمل المَيدانية؛ لرَفعِ مُستوى كَفاءة المعلّم، وزِيادَة إنتاجِيته، كَمُا وكَيفًا!
إضَافَةً لِمَا تمّ ذِكره مِن أهمية رِسَالة المُعلم السامِية، ومَهام إعداده التربوي الشامِل المُواكِب لمَسرحِ مَسِيرة التطّور العِلمي الناهِض، الذي يَشهدَه العالم بأسرِه، في شُيوعِ أدوَار عَصر أسنِمة التطوّر التِكنولُوجِي المُعاصِر؛ وذُيوعِ أندَى عُقودِ أحوَال العَولَمة الكاسِحَة، لاَمَفرّ مِن مُضاعَفة أسَاليب، وتوسَيع أنماط الاهتمام بعقلِية مُدركَات الطفل المُعاصِر، جُملةً وتفصِيلًا… وهُنالِك، يَحلُو لِي أنْ أْعرّجَ لِزامُا، على بعضٍ مِن جُملةِ المواقِفِ الميدانيةِ الذاتيةِ، التي شهِدتها عِيانًا؛ وطَوّرتها أَصَالةً، في طُولِ زِحَام مَسيرَة خِبرتِي الميدانية المُتواضِعة، في تقدِيم وتدرَيس مَادة اللغة الإنجليزية، للصف الأول الإبتدائي، لقَرابة عِقدين مِن الزمن، بمدارِس الهيأة الملكية العَامِرة، بمدينة الجُبيل الصناعية الزاهِرة… حَيثُ انصَبّ جُل اهتمامِي؛ وكرّستُ مَعظَم مُتابعتِي لاستِجابات “التغذِية الراجِعة” لمُستويات قَامَات البراعم الشابّة الصغيرة؛ وقد أبهَرنِي بشِدّةٍ- ذات مرّةٍ- مَوقف طُفولِي استثنائي، أثناء تقديم أُنشُودة إنجليزية تقليدية، بعدَ أنِ استمع إليها الصف بلحنِها الأَصلي المُمَيّز، وإيقاعِها الأدائي المُنغّم، مِن أداء مُنشدٍ ناطقٍ باللغة الإنجليزية الأُم، عَينِها… حِينيذٍ قُمتُ برسمِ مَشهدٍ تَعبِيريٍ حَيٍ على السبورة؛ لاستثارةِ استجابات التلاميذ؛ وشَحذِ أخْيِلتهم الخصبة؛ والتحلِيق بها عَاليًا، في آفاق الخيال الواسِع؛ لاستحثات أعْلى مُستويَات التفاعُل الايجابِي المأمُول؛ وإِذا بتلميذٍ- في وَسَط الصف- يستأذِن باقتراحٍ وَجِيهٍ مَلمُوسٍ، بإضافةِ بعض الرِّتُوش على لّمسة الرسم التوضِيحي، وشَيءٍ مِن فَنيّات الأَداء؛ لتصِل الصّور الذّهنية المُعبّرة إلى أذهان نُظرائه في الصف… وفِي صَمِيم ذلك الموقِف الألمعِي الشجَاع؛ قد أَكْبَرتُ التلميذ؛ وأثنيتُ على لَمحَةِ ذَكائه المُميّز؛ وبارَكتُ حُضورِ بدِيهيّتِه المُتيقّظَة، في سِنٍ مُبكّرةٍ…!
هَذَا، وفِي جَعبَة حَافِظتِي مَشهدٌ تَربويٌ مَعبرٌ آخر، حَيث أثناء الأندِمَاج في الدرس، في الصف الأول الابتدائي، بمدرسةِ حِراء الابتدائية، إذ ظَهرت عَنكبوت مِن جَانب السبّورة، وقد أثارت بعص الرّعبِ والاضطرابِ في نُفِوسِ التلاميذ للَحظةٍ؛ ولم أَسمَح لذلك الموقِف الخاطِف، أنْ يَمرّ مُرُورَ الكِرام، بعدَ أنْ تعرّف التلاميذ على الحشرة، صَرخُوا بصَوتٍ مُوحّدٍ عَالٍ: (spider)… وهُناك طفَا- على السطح- تَعزيزٌ جَاذبٌ لموقفٍ تعلِيميٍ حَاضرٍ عَابرٍ؛ لأَسْتغلّه بحِكمةٍ، في استهلالِ مُحادثةٍ ثُنائيةٍ فَورِيةٍ بين تلميذَين، وقد وَقف كلّ واحدٍ مِنهما على جانبٍ طرف السبورة؛ وانتحلا “مَشاعِر” عَنكبُوتين؛ لتسأل الأولى، وتجيبها الأُخرَى بلباقةٍ تعبِيريةٍ، بعدَ أنْ تمّ التدرِيب المُكثّف، على سَير تلك المُحادَثة… وفِي الدرس التالي أحضرتُ عَناكِب بَلاستيكِية، وعَلّقتها على طَرفي السبورة؛ لأعُزِّز استمرارِية جَذب ذلك المَشهد المُثير الخاطِف، لَحظة ظُهورِ العنكبوتِ الحَقيقِية؛ وأضِيف- في كلّ مَرةٍ- عِباراتٍ حِواريةٍ جَديدةٍ؛ لِتطوِير المُحادثة الثنائية المُمتدّة؛ وبالتالِي، يتمّ رَبط، وتَعزِيزِ، ونَسجِ عملية التعلّم الفعّال، عن طَريق مُؤثّر عَرضِيٍ قَويٍ نَشطٍ… !
ولَاحِقًا، تابعتُ سَير المَزِيد مِن هَطْلِ المُحادَثات الثّنائية… إذ تُعدّ مَهارَةُ المُحادثة الثنائية ذاتُها، واحِدة مَن المهارَات الأَساسِية الأَربع؛ وثانِي المهارات الأولية، التالية لمَهارة الاستِماع… وقَد نجَحتُ، أنا وتلامِذتِي سَوِيًا، في تَطوِير أَنماط مُحادثات مُماثِلة، بعد أنْ أحضَرت في كلّ مَوقفٍ تعلِيميٍ جَديدٍ، المزِيد مِن “الحشرات والحيوانات” الحِسّيةِ البِلاستيكِيةِ، واستِنطَاقِها، باستحداث مُحادثاث ثنائية جَديدة، على خَلفِية مَفهوم ” التعلم باللّعِب” التربوي المُنظّم… وقد استقبَلها تلامِذة الصف الأول الابتدائي، بمَزيدٍ مِن الإِثارة، والجِدِية؛ والحَماسَة! ولاحِقًا تمّ تطوِير وإطَالَة لَحظاتِ الاستمتاع “الطلابي” لتأسِيسِ وتعزيز عَملية التعلم الفعّال، في بِدايات سِنٍ مُبكرةٍ؛ لتَتحَقّق الأهداف المرسُومة؛ ويَتم رَبط وضَبط نِقاط رَسم استِقامَة خطّ المُؤشر التعلِيمي الصاعِد كَمًا وكَيفًا… وُصُولًا إلى مَرحلةِ الاستمتاع باللّعب التربوي المُنظّم؛ لإشباع حَاجَات واستعدَادَات التلامِيذ، إلى مِثل سِلال تلك الأنمَاط والأسالِيب التربوية المَدرُوسَة؛ لإِحدَاث، وتَسرِيع، وتَعزِيز نَوعِيّين، لعملِية التعلّم النشط الفعال، في أذهان وعُقُول الناشِئة، مُنذ نُعومَة أَضفارِهم…!
وامتِدَادًا مُوسّعًا لمَواقِف المُحادثات الثنائية المُتنامِية؛ ولإشراك وتدريب أكثر مِن مَهارَةٍ وَاحدةٍ، في وَقتٍ واحدٍ، قُمتُ بتقديمِ قائمةِ الألوان الأساسِية أمام الصف… وبعد أنْ أتم التلاميذ مَعرفتها، والتعرّف عليها، وإتقانِ لفظِها، انتقلتُ مَعهُم لتوزِيع قُصَاصَات وَرقِية عليهم؛ لتلوين أنواع الحشرات والحيوانات، التي سَبَق للتلاميذِ مَعرفتِها في سِيَاق المُحادثات الثنائية الآنِفة الذّكر، واستقطَاع جُزءٍ مِن وقتِ الحِصة لإشباع نَهم الاستمتاع بمهارة التلوين الحُر؛ لقَدْحِ واستِحثاث ذَائقة خَيال التلاميذ، مِن جِهةٍ؛ وتقويةِ مَهارة التّوافُق العَصبِي العَضلِي، مِن جهةٍ أُخرى؛ واستِهلال مُسابقاتٍ تحفِيزيةٍ تشجِيعيةٍ، بعَرضِ القُصَاصَات المُلوّنة، المُتقَنة، عَلى السبّورة… وهُناك بندٌ مَن الجَوائز المادِية التشجِيعية، ينتظِر تلاميذ الصف الفائزين بأجمعِهم… وعِلاوَة على ذلك الإنجاز الملموس، قُمت بتقديم مَجموعة حَيوانات وحَشرات الحَقل، ضِمن بيئتِها الطبيعية باستخدام صَفحاتِ مِن كَرّاسة كَبيرة الحجم- Big -Book قمتُ بعرضِها- بين الفَينةِ والأُخرَى- أّمَام الصف، مُسمّيًا مُفردات البيئةِ المُرافِقةِ لَفظيًا، واحدةً، تِلوَ الأُخرَى، والصفّ يُردّد مِن بَعدِي، بطَرائق، لَا تنقُصُها الإِثارَة والحَماسَة البادِيتَين في قِمَم صِهاء حَواسّ، ونَواصِي أذهان التلاميذ، بجَودَةِ لَفظٍ، وعَظِيمِ مُتعةٍ عَاليتَين؛ ليُحَاكِي ويَتقمّص التلاميذ لاحِقًا- بنشاطٍ مُنفردٍ، الأُسلُوب المُبتكَر لمهارَة جَديدةٍ، أسمَيتها “المُدرّسَ الصغير”… وقد أحبّها واستمتَع بِها التلامذة، أَيّما استمتاع…! ولَعلّ القارِئ الكَريم يُلاحِظ مَعي أنّ ذلك الاستِغراق المُتنوّع، بنُسُق صُورِه التّراكُمية المَرحَلية المُتدرّجة، في تَقدِيم وتَعلِيم تلك الجُزئِيّة مِن مَهارات تعليم مَبادِئ اللغة الإنجلِيزية، وتَقرِيبِها لأَذهَان بَراعِم الناشِئة، كَمًا وكَيفًا… وقَد وَضَحَت وتَحقّقَت الأهدَاف التربوِية المَرسُومَة؛ ليرَاها، مَاثلةً؛ ويَقِف على صَرِيحِ مُخرجَاتِها المُشرِف التربوي المُقَيِّم، والزائر الحَاضِر، بارتِياحٍ، وانشِراحٍ، وشَفافِيةٍ، وإٍشادةٍ، على حَدٍ سَواءٍ… واللهُ مِن وَراءِ القَصدِ، وهُو الهادِي، إلى سَواءِ السّبِيلِ…!