أن ينتابك هلع السؤال للحظات بأنّك ستظل وحيدًا، إنّه شيء مُؤلم حقًا، يُقعر الدنيا في عينيك باتساع أفقها، ينخر البُؤس رُوحك، يُصيّرها ظلامًا، لا ضوء في حياتك، كأنّك في معزل عن العالم، عن الأشياء من حولك، عن نبضاتها، عن براءة الأطفال، وعرق العاملين، عن رائحة الطعام، وانتشاء العصير الطبيعي البارد في فصل الصيف من يديّ من تعشق أناملها.
مُغرم بالأسئلة، مخبوء في ذاته، اقتصر في علاقاته الاجتماعية على البعض من الأصدقاء، يقضي وقته بين الكتب؛ يقرأ بلا ملل، يّمارس الكتابة، وضع مساحة إلى ذاته، يستفيق كلّ يوم على أمل، يُشرق من نافذته المُطلة على حديقته الغنّاء، تسكنه الذكريات بألوانها.
مُذ تعلق بالكتابة أصبحت ملاذه، يبتعد بذاته عن الحسّ مُتوافقًا مع أفكاره، يستأنس في وحدته، لا يشعر بالغُربة مهما كان وحيدًا، يعيش شخصياته، التي ينسجها في كتاباته.
ثمَّة أشياء تتحرك كلّما أغمضت عينيك، وعندما تتسع العينان لتُبصرا الأشياء من حولها، لا حراك لها، كأنّها بمعزل عن الواقع إلى اللا واقع.
يجلس الإنسان مع ذاته؛ ليكتب خيالاته، إنَّ الجمال في الكتابة أن تنسج بالكلمات هذه الأشياء التي لا تُبصرها، لا تلمسها، ولكنّك في لحظات الغياب المُفعم بالغرق، تتحسسها بكلك، كأنّك وحدك هنا، وهناك، وفي كلّ الأشياء.
تأذى كثيرًا من علاقاته الاجتماعية، كان يُهدي الورد إلى الآخرين، ويغرسون في قلبه الأشواك، اختزل في ذاته حكايات، لاتزال إلى هذه اللّحظة، تتكوّن في أنساق مُختلفة، لتجيء في كتاباته، فالحياة فعل درامي، يسكن الكاتب، وعليه ينسج أفكاره، ورُؤاه، وتأملاته.
لقد أشبعه الحُزن كثيرًا، أفقده الإحساس بقدميه، ليُصبح كرسيه المُتحرك توأمه، الذي لا يُفارقه، نشأ فيه، وترعرع على وقع خُطاه، منذ ولادته كان مُعاقًا، الابن الوحيد إلى والديه، كان جميلًا ذا عينين واسعتين، لونهما، يوشم باللّمعان، يشدك النّظر إليهما كلّما شعرت بوجوده بقُربك، بياض وجنتيه، وابتسامته الرقيقة، تبعث الأمل والأنس.
تفوق في دراسته، فقد أغدق والداه عليه بالحنان، واللّطف، ربياه على أنّ الإعاقة لا تُمثل نهاية العالم، وأنّه باستطاعته أن يعيش كالأسوياء جسديًا، ربياه على أنّ الإنسان قيمته فيما يحمله في داخله من إنسانيته، من أفكاره، وثقافته، من الطّموح، الذي يختزل في ذاته.
والده الحاج إسماعيل قارئ مُتميز، لديه مكتبة كبيرة، وقد تربى ابنه على حُب الكتاب، ليتخذه رفيقًا لا استغناء عنه.
بين أقرانه، كان مُتفردًا، هكذا نشأ وترعرع، كان سعيدًا برغم إعاقته، إلا بعد أن حدث ما حدث، لتتغير حياته جملة وتفصيلًا.