ولو تصفّحت أوراقي لتقرأها… رأيت تأملاتي جُلّ أوراقي
1. لله دَرُّ حَاسّة الشم المُستقبِلة! إحدَى الحَواس العَظِيمة الجَلِيلَة؛ وهِي بِمثابةِ البَوابةِ الرئيسَةِ، والمِسبارِ الحسّاس القائد، الذي يُرسِل باقاتِ هَطلٍ مِدرَارَةٍ، مِن أَدقّ إشارَاتٍ مُبرِقةٍ دَقيقةٍ إلى مَجاسّ مَنظُومةِ شبكةِ الأَعصابِ الناقِلة إلى مَركز الشّم بأدْمِغةِ البشَر، وغَيرِهم مِن سَائر شتّى أَسرَابِ، ورُتَبِ وأَصنافِ مَمالِك المخلوقاتِ الربّانيةِ المُختلِفةِ العُظمى، بنِسبٍ مُقَنّنةٍ مُتفاوِتةٍ… وفِي ذلك المدّ الرافِد، عَطاء فِطرةٍ إلهيةٍ سَامِيةٍ؛ وسَابقة هِبةٍ سَابغةٍ رَاقيةٍ، قد وَهبهَا الخالِق- عَزّ وجَلّ- تَكَرّمًا وإحسَانًا، إلى عَددٍ هَائلٍ ضَافٍ مِن سَائرِ مَخلوقاتِه، السابِحة والدابّة، والطيّارة؛ لحِكمةٍ بَالغةٍ رَاشِدةٍ، يُدرِكُ حقِيقةَ خَفايَاها الخَلقِية، ويُحِيطُ بكُنهِ أسرارِها الفِطريّة المُستَتِرة رَبُّ العِزّة والجَلال … لِيتسنّى لسَلاسِل مَنظْومةِ المخلوقاتِ الشامِلة أنْ تُكْبِر وتُجِلّ كِبرياءَ عَظمَة ربّها الواسِعة؛ وتُسبّحَ لقدرتِة المُقتِدرَة تَسلِيمًا وطَوعًا، في أطرافِ الليلِ، وأناءِ النهار… وبطُولِ مَوجاتِ أنغامِ مَا غرّدَه الشّادِي؛ ومَا أنشدَه الحَادِي…(يُسبّحُ لِله مَافِي السَّمَاوَاتِ ومَافِي الأَرضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ).*
2. ولِلتّارِيخِ نَكهَةٌ، ذاتُ رَوائحَ عَبِقةٍ تُدركُها، وتَقرأ ظِلّ أصَالة أريجِها العطِر، كَافّة مَجاسِ الحواسِ الخمسِ، ومَا تَلاهَا مِن مَراقِي الحاسّة السادسة (حِدّة الفَراسَة) ومَدارِج الحاسة السابعة، مُدركات (فَوق الحِسِّية)… ولأَنَّ فَترة طُول أعمارِنا الزمَنية قَصِيرة نِسبيًا، فَلا نكادُ نَرى مَا حَوَته بيئتُنا الحاضِنة، على سَبيلِ المِثال؛ غَير أَنّنا نُسبّح ونَشطَح زَهوًا، ببصِيرةِ حَواسّنا الحاضِرةِ؛ ونَجُوبَ بأَخْيِلة العَجَب المُبصِرة؛ ونرُوم بنبضِ الحَواس الحالِمة؛ لاستِقصَاءِ صُوَرٍ افتراضِيةٍ وَضّاءةٍ؛ واستجلَاءِ مَا وَرَاء حِجاب أُفُق مُنحنَى الحواس النافِذة… ولَعلّ في مُنتهَى غَيابة ذلك المنحَى الإيحائي العقلي المُتوقّد، مَا أدْلَى بدَلوهِم فيه، بعُمق واستِفاضَة، لَفيفٌ مِن ثُلّة العلماء المُخترعِين، وتَبِعتهُم كَوكَبةٌ مِن صَفّ نُخبة أترابِهم المُنظّرِين الساعِين إلى بَرمجةِ فَراسة، وشَحذِ نَجابَة عُقولِهم المُتحرّرة المُتيقّظة؛ واستقطابِ مَا يُمكن أنْ تجسّده، وتَطمَئنّ إليه أعِنّة سَقفِ مِظلّات صَحو الحَواس الوَقّادة!
3. ولَعَلّ مِن نَافلةِ القول، أنّه في كلّ مّرةٍ أزورُ مَسقط رأسَي، قلعةَ “دَيرةِ تاروت” العرَيقة- وقد أكمَلت، وأنهيت، وتعدّيت مُنتصف العقد السادِس مِن عُمري… أتذكّرُ قَامَات؛ واستَحضِر هَامَات أَناسِيها الطيّبين؛ وأشِمّ رَوائحَ مَحَاجِّ أزقّتِها بنكهَتِها البِكر، وأُقبّل جَوادَّ “سَوابيطِها” العريقة المُزدَانة بأسمَى رَشّات رَوائح عبَق بسّاطَتَها، وشذا وَداعَتِها، وصلابة نَبعتيِها المَحفوفَة بأطيافِ أريجِ الأصَالَةِ… وقد اسْتحوَذَت قَبضة تلك المشاهدِ الرائقةِ؛ وسَيطرةِ الرؤى الشائقةِ برمّتها، على مَكامِن جُلّ أزرارِ مَراصِدِ الحواس الخمس؛ واسْتأثَرت بعُروضٍ بانوراميةِ البث الجاذِب؛ لتكشُف- بصَفاءٍ ونَقاءٍ، عَن نَمطِيةِ نظامٍ اجتماعيٍ سَمحٍ أَريحِيٍ، سَخِيٍ، أَلمعِيٍ، تَسودُه سّماحَةُ النفس؛ وتُعطّرُه دَمَاثَةُ الخُلُق؛ وتُميّزُه نقاءُ السّرِيرة؛ وتُمجّدُه حُسنُ السِّيرة العطِرة؛ وتَحوطُة كَرامةُ العِشرَةِ المُتآخِيةِ؛ وتُؤطّر جُموعُ الأناسِي الطيبة جَميعُها، بمَساعِي أَولَوِية التكافُل الاجتماعي الحَاضِن؛ وتظلّلهُم أواصِر التعايُش الوِدّي الجَامِع، بين جُمعَةِ وأُلفَةِ أفرادِه، وكأَنّ رِقّة قُلوبِهم الحانِية جُنِودٌ مُجَنّدةٌ… تألَف الانضِواء الطوعِي المُحتمِي، تَحت مِظلة المَحبّة الشامِلة؛ وتنجذِبُ نَبضاتُها الرحِيمة، إلى نَقاءِ الكلمةِ المُوحّدة؛ وتَأوِي رَاحُ أيَادِيهم الندِية، إلى مَدرِاج التعاون؛ وتَصطفّ جِباهُهم المُشرِقَة طَواعِية، عِند مَنابع التآزُر، بين جُدران عَراقَة ونَضارَة نُسُق بُيوتاتِهم الحَجرية المُتلاصِقة… !
4. ولِحُسنِ الحَظّ، وسَعادةِ التوفِيقِ، أنا وأتربي، حَفظَهم الله تعالى، فقد عَاصَرْنا، وشَهِدْنا بَساطَة تلك العُقُودِ المُنصَرمةِ- بحُلوِها ومُرّها- في مُقتَبلِ أعمارِنا؛ وحَضرنا دُروسَ “الكُتّابِ” ونعِمنا ببَداياتِ التعليم النّظامِي، وقَد كانت الأُمِيّة مُتفشّيةً- على أَشُدّها- بين الآباء والأمهات، آنذاك… وقد أَحسّ الوالِدان الكَريمان، بأهَميةِ رَصِيدِ “العلم والتعليم” الحَلْقة المَفقودة فِي مُستهلّ عُنفُوانِ صِباهم؛ وعِندها استيقظوا أصحّاءً نُجباءً، مُتطلّعِين مُسْتبشِرين؛ ليُرَوْا سِلاح العلم شَاخِصًا مَاثِلًا، في نَواصِي قامَاتِ وعُقولِ أَبنائهم وبَناتهم البرَرَة، المُنتظِرِين، بوَعيٍ وتطلّعٍ، إلى سَبر آفاق المُستقبل المُضِيء النيّر…!
5. هَذَا، ولَم يَكُن رَصِيدُ التعليم، وسِلاحُ مَهارتَي القِراءة والكِتابة عَائقًا رَئيسًا، في تَحفِيز وتَوجِيه دِفَافِ قَوارِبِ رِحلَة الحياة المَعيشِية؛ وحَائلًا لتَدفّقِ جَداوِل، وانتَشاء خَمائل، واتّساع شَمائل شتّى مَرافِق حَياة الآباء المُكافِحِين؛ وحَاجزًا لتَوقّفِ مَنهج صِيت السِيرةِ المَعيشيةِ الميسّرةِ؛ وصَارِفًا عَن انحِسار مَسلَكِ طِيبِ السّرِيرَةِ الظافِرةِ؛ لصُفوفِ الآباء الأَمَاجِد، وفُلولِ الأَجدَاد الأجِلّاء، رَحمهم الله تعالى، برحمتِه الواسِعة؛ وأَطَال في عُمْرِ حّاضِرهِم؛ بِما تَجشّموه سَماحَة- قضّهم وقَضِيضِهم- مِن عَناءٍ وشَقاءٍ؛ وتَكبّدوه أَريحِية، مِن مَشاقّ توفِير لُقمة العيشِ الحَلال، بفَائقِ جِدٍ، وجَميلِ صَبرٍ، ورَائقِ اجتهادٍ، لَهم ولأَفرادِ اُُسَرِهِم؛ وصَارَعوا أهوَالَ البحر؛ ونَقلوا الحجرَ والصخرَ؛ وامتهَنوا سَائر الحِرَف؛ واحترَفوا شَائع المِهَن التقليدية، المُتوفّرة، آنذاك؛ وعَاشُوا في ظِلال مَندُوحَةِ حَياةٍ كَريمةٍ، أعزّاءَ مُكرّمِين، مَحبُورِين، بمَا وهَبهم ربهُم، جَلّت قُدرته، مِن بَسْطةٍ في الأَبدَان؛ وطُولٍ في الأعمَار؛ وسَعةٍ في الرزق، وصَفاءٍ في الفِكر؛ وبَركةٍ ضَافيةٍ في بِطانَة الذّرِية… تُبقِيهم سُعدَاء في عُقر دِيارِهم العامِرة بنعمةِ الإيمان، والمُسدّدَة بطاعةِ الرحمان.
6. وتَحتَ نَسِيجِ مِظَلّة تغيّر وتبدّل الأَحوال، مِن حَالٍ إلى حَال، لم أكدْ أغمضُ عَيناي- بظُلمٍ وغَشَمٍ- وأَحجِبُ ناعِم مَوجَات أثيرَ بثّ تلك الصّور المُلوّنة، الثلاثِية الأبعَاد؛ وأسحَبها طَوعًا لَيّنًا، مِن فَوق أرفُفِ أَرشِيفِ ذاكِرتي المُتيقّظة الحيّة؛ المُتمازِجة برَوائحِ الماضِي العطِرة؛ والمُتعفّرَة بمَباهِج مُتعةِ الأيامِ الوضّاءة الحاضِرة؛ لأستقصِى في رُبوعِها هُناك، مَزهوًا باستحسانٍ؛ واستجلِي في دَيارِها مُترَفًا، بأصَالةِ مَشاهِدَ، وأريحِيةِ مَلامِحَ عَتِيقةٍ- سَادَت ثم بَادَت- وقد انْطمسَت مَعالِمُها؛ وانْدرَست نَسائمُ أرِيجِها مَع هَبّات عُقودِ حَركةِ الإِعمار، ومَناشِطُ التجدِيد؛ وقد تَقزّم شَطؤها القائم تِباعًا، مَع عُقودِ طَفراتِ التطوّر الراهِنة، التي شَهِدَتّها “جزيرة تاروت” العريقة، في عَهدِها السعودي الزاهِر؛ لتَرسِم، وتُشكّل، وتُسجّل مَعالِم- جُغرافيةٍ، و”دِيموغرافِيةٍ” واجتماعيةٍ- مُعاصِرةٍ، تُماثِل في بِنيتِها المُتجدّدة، سَائر مُدُن المملكة المُتطوّرَة… وقَد تَوارَت واختفَت جُلّ المعَالم النّمطِية العَتيِقة سِراعًا عِيانًا؛ وعلى إثرِها تقزّمَت وتقلّصَت أشجار النخيل المُثمرَة؛ واختَفت وتَوارَت أسرابُ الأََطيارِ المُهاجِرة، بألوانِها الزاهِية الأَخّاذَة؛ واندرَست واندثَرت مَساحَات زِراعة البِرسِيم الأخضر النظِر الواسعة، بشمِيم رائحتِهِ النفّاذَة؛ وقد أُصِيبَت وقتئذٍ، قُطعان المَواشي لُحُوقًا، بأعراضِ الضّعفِ والهُزال؛ ونَضبَت وانحسَرت كُل تلك العُيُون الأَرتوازِية المُتدفّقة المُنتشِرَة، في عُقر أعمَاق البساتِين الغنّاء… كلّ جُزئيّات قَوام تلك المُفردات البيئية الطبيعية البائدة، التي كانت تَتسابَقُ طَوعًا، وتَنسابُ تَكرّمًا، وتُسدِي تَفضّلًا، يانعِ وناضرِ رَيعِ نِتاح أندَى ربيع “مَحصُولاتِها” الوافِرة الفيّاضَة؛ وشَكّلت بسخاءٍ عِندئذٍ، قَطرات عَطاءاتِها البنائية البِكر، شَمِيم مَزيج قارُورَةِ العِطرِ المَلكِيّ الفاخِرِ…!
*سورة الجمعة أية 1