الزهراء (ع) ومنهج التكامل الإنساني

الحديث عن ملامح العظمة والجمال الروحي في شخصية السيدة الزهراء (ع) بالتأكيد لا يعني مسيرة بحث وإدراك وتبيّن، فنحن أدنى من هذه المعرفة التي اختصها بها خالقها والمطّلع على كنه نفسها الفياضة بالفضائل، وإنما هو ترسم خطاها وطلب الاهتداء لنورها المبارك في وسط لجج هذه الحياة وميادينها، فهي (ع) قبس الهدى والنور على مستوى جميع الأصعدة الروحية والإنسانية والفكرية والأخلاقية، وهذه سيرتها الغراء كنز ثمين لمن طلب صناعة شخصيته وفق دعائم التكامل والألق والاستقامة والاتزان، ولا غرو في ذلك فهي الامتداد لفضائل الدوحة المحمدية والمشار لها في تضمن شخصيتها لما كان عليه أبوها أفضل الخلق (ص) من قيم أخلاقية ومنظومة تربوية لا نظير لها بين الناس، حيث عبر عنها (ع) بأنها بضعة منه فلا تفرق في سيرتها الكمالية والأخلاقية عنه أبدًا، فهي (ع) مرآة صافية تكشف في كل أفعالها عن مواضع الرضا الإلهي فلا تفارق إرادته سبحانه قيد أنملة في أي محطة من محطات عمرها الشريف، فأوليائه عز وجل اصطفاهم من بين الخلق لما كانوا عليه من طهارة نفسية وهمة عالية في ميدان العطاء، ولهذا أشير لهم كنفحة رحمانية للناس يتلمسون سيرتهم ويتخذونها قدوة لهم، وهذا الاقتداء يبتدئ بالخط المعرفي من خلال الاطلاع على ما سطرته كتب العلماء من تدوين لمفاصل حياتها مع ما أصبغ عليها من تحليلات واستنتاجات واستخلاص للعبر والدروس الملهمة.

في مدرسة الزهراء (ع) ليس هناك تباين بين الرجل والمرأة في خطى تنمية الملكات والقدرات الفكرية والسلوكية والسير في طريق التكامل، إذ أنها (ع) من خلال علاقتها بربها العبادية وتعاملها الأخلاقي الرفيع تخط معالم السير والسلوك، بلا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة فكلاهما يمكن له أن يتبوأ أعلى الدرجات في ساحة التفوق والتميّز، فالمرأة لا يقف الحجاب والصون عائقًا أمام مسيرتها العلمية والمهارية أبدًا، فيمكنها أن تنشط قدراتها وتتسنم القمم الفكرية والمهنية، وكذلك الرجل تألقه بعفته ومكارم أخلاقه فهذه القيمة الوجودية الحقيقية له، وأما حياة الاستهتار والضياع والعبثية واللهث خلف المظاهر المادية فلا تعني وجودًا له، بل هو هبوط وانحدار بعد أن تخلى عن عقله وانساق خلف شهواته مسير الأعمى، وإنما نهج الزهراء (ع) التربوي يدعو إلى الحياة الفاضلة المتناسقة مع تكريم الإنسان ورفعة شأنه عن عالم الأهواء والبهيمية.

مولاتنا الزهراء (ع) أعطتنا درسًا بليغًا في فهم الدور الوظيفي للإنسان ومساره الألقي والراقي، فهامت نفسها الطيبة بالعلاقة بخالقها في محراب الطاعة والمناجاة، وكم نحتاج إلى هذا السمو الروحي الذي يجنّبنا ويلات القلق والاضطراب النفسي بسبب مشاغل الحياة والخوف من المستقبل المجهول، وأما الأنس والطمأنينة والثقة بالله والتوكل عليه سبحانه لهي السعادة الحقيقية وراحة البال، وتفتح العقل نحو واحة الوعي والرشد من خلال المصدر المعرفي المتمثل بآيات القرآن الكريم والروايات الشريفة المتضمنة للحكم والإرشادات المتنوعة، كما تفتح الوجدان نحو محبة الناس ومجانبة المشاعر السلبية تجاه من أساء له، فالزهراء (ع) مدرسة التسامح التي نحتاجها بقوة في نجاح علاقاتنا الأسرية والاجتماعية والتخلي عن التعنت والعناد والأحقاد.

لقد أسهمت مولاتنا الزهراء (ع) في مسيرة التوعية والإرشاد للأمة عبر جهودها الكبيرة في دروسها مع النساء، وكذلك تنوير العقول بكلماتها وحكمها التي تضمنت المعارف والقيم العالية، ونحن نتطلع إلى النهضة بالمجتمع في فكره وسلوكه ومهاراته نضع نصب أيدينا تلك القدوة الحسنة الداعية إلى الهمم العالية والإرادات القوية في الوصول إلى قمة المجد والتكامل، فبيت الزهراء (ع) أضاء من حوله بنور الطاعة لله عز وجل وقيادة الناس نحو استلهام المعارف من خلال الدروس التي تلقيها، تعاملها كان يتضمن كل علائم الطيب والتواضع واحترام الآخر، وكما أنها مأوى المعارف ومدرسة الأخلاق كذلك يداها المعطاءتان كانتا بلسمًا لحاجات المعوزين وتطييب نفوسهم من وطأة الفقر.



error: المحتوي محمي